كان صباح عمل اعتيادي، كان يوم ثلاثاء، وأنا لا أكره الثلاثاء كثيرا، فهو ليس بيوم عمل شاق في العادة, و قد نلت حصتي من صداع بداية الأسبوع المزمن في اليوم السابق, غير أنني استيقظت بذات الصداع المزمن وكأنني أعاود بدء الأسبوع من جديد, نظرت إلي ساعة الحائط المقابل للفراش لأجدها تشير إلي قرابة التاسعة, حدّقت قليلا في ذلك الإطار الذي لا أعرف يقينا ما كان لونه في الأصل وإلي العقارب الملتوية بداخله لأتيقن من صحة ما رأيت, كان هذا ما ينقصني, تعكر مزاج في صباحين متتابعين ومتاعب جديدة في عمل لم أستقر به بعد! تجهزت للخروج علي عجل, ومع كل خطوة كنت أخطوها كنت أهامس نفسي موبخا: "كان يجب أن أكون هناك الآن !", وفور خروجي للشارع كان صوت سارينات الإسعاف وأبواق سيارات المطافي يصم الآذان, وكأن يومي بحاجة إلي المزيد, وصلت أخيرا لمحطة القطار المجاورة, لكن القطارات كانت متوقفة, خرجت سريعا إلي الشارع وأشرت لسائق تاكسي بالتوقف, عادة لا أفعل هذا, فراتبي لم يكن يتحمل أمرا كهذا, لكني كنت مضظرا حتي لا أفقد عملي بعد مرات التأخير الكثيرة هذا الشهر, بعد أن ركبت السيارة قلت للسائق: "مركز التجارة العالمي", فرد سريعا: "لا أستطيع الوصول إلي هناك .. يمكنني إيصالك حتي جادة الشارع الرابع عشر !", قلت: "ولكن هذا بعيد جدا عن مقصدي", فأجاب وهو يهز كتفيه: "آسف .. المنطقة مغلقة بسبب الحادث", بالطبع خرجت وأنا أقول لنفسي "أي حادث هذا الذي يغلق قلب المدينة!", كانت الساعة قد قاربت العاشرة، وأيقنت وقتها أنه لا جدوي من المحاولة, سأغيب اليوم وسأذهب في الغد بحجة لن تبدو مقنعة علي الأرجح, عاودت السير نحو سكني, ذلك المنزل العتيق الذي تفوح منه رائحة الشيخوخة و العجز, هو يمثل تماما حلم مالكه الفلسطيني الذي قدم إلي العالم الجديد منذ نصف قرن, كان حلمه عندما قدم شابا أن يمتلك أصلا, عمل جاهدا كما يقول دائما حتي سدد أقساطه كاملة, تلك البناية العتيقة الآن ليست أكثر من راتب تقاعده ! عندما دخلت المنزل لم يكن يدور بخاطري إلا أنني علي الأرجح قد فقدت عملي, كان التوقيت سيئا, فقد أنفقت ما ادخرته في الإنتقال من نيوجيرسي إلي نيويورك قبلها بشهرين, و راتبي كان مقسّما بعد انتقالي للمدينة بين دفع الإيجار و لوازم المعيشة و فاتورة الدراسة التي كنت قد شرعت فيها للتو, ركلت المنضدة التي تقبع في منتصف الغرفة بقدمي و أنا أقول لنفسي ثانية: "كان ينبغي أن أكون هناك !", ثم شغّلت التلفاز لأري ما حدث, و لم أكد أتبين الصورة المعروضة حتي جلست و أنا أضع يداي فوق راسي مذهولا, لقد كانت الصورة لمكان عملي يحترق, لقد اصتدمت ببرجيه طائرتان اختطفهما إرهابيون ! لقد تغير التاريخ فجأة في ذلك الثلاثاء البعيد, لقد انتصر اليأس مجددا انتصارا بدا ساحقا حتى إنه سيّر العالم علي رأسه طيلة عقد ونصف, ذلك اليأس الذي دفع هؤلاء الانتحاريين إلي استخدام كل شئ يقع تحت أيديهم كالطائرات والمركبات وحتي أجساد البشر كأدوات للقتل, وتحت وطأة الصدمة سارعت القوي القيّمة علي الحضارة الغربية إلي خوض حروب في أقاصي الكوكب لا لشئ إلا للتخريب والانتقام. لقد عاصرت تلك الفترة العصيبة بالولايات المتحدة, وتابعت عن كثب هذيان اليمين ورعونته البالغة في معالجة الأزمة التي هددت الحضارة, ذلك الهذيان وتلك الرعونة اللذان لم يزيدا الأمر إلا سوءا, لكن وفي عتمة كهذي لم نعدم الأمل في أن نسمع شيئا بخلاف رؤى بوش للمسيح في منامه، وبخلاف أحلام اليمين الغربي بالتخريب المحض لدول الشرق الأوسط بلا خطة لبناء أي شئ علي الإطلاق، لقد كان أملا مغمورا كمن مثّله، كان ذلك عندما سمعت خطابا لرجل يدعي باراك أوباما في مسيرة مناهضة لحرب العراق في مطلع أكتوبر 2002, ذلك السياسي المغمور وقتها والذي لم يكن قد ترشح أصلا لمجلس الشيوخ, تصادف لحظتها أن رأيت سياسيا أمريكيا يري الأمور كما كنت أراها تقريبا وقتها, كان يري أن صدام حسين ديكتاتورا شرق أوسطي كغيره, و أن مآله كغيره من هذه الشاكلة سيكون إلي سلة مهملات التاريخ, وإن كان ثمة مشكلة في الشرق الأوسط فهؤلاء هم سببها الرئيس, لكن الحرب للتخريب ليست الحل, بل مساعدة الشعوب ضد القمع و الفساد و الفقر! كان خطاب أوباما هذا بالنسبة لي وقتها كأمارة أن هناك من لم يزل يؤمن بالسياسة, كانت مسيرة مناهضة للحرب بالغرب الأوسط يقودها سياسي أسود, لم يكن ليحظى –في تقديري آنذاك- بمستقبل أفضل من أقرانه من بني جلدته كافية لطمأنتي أن هناك من لم يزل يؤمن بالتراث الإنساني وبالسياسة في حلحلة الأزمات, ثم أعقب هذه المسيرة مسيرات أخري, ثم فجأة يربح هذا السياسي المغمور مقعدا في مجلس الشيوخ, بل ويكون متحدثا رئيسيا في المجمع الإنتخابي للحزب الديمقراطي في 2004, ذلك الخطاب الذي تحدث فيه عن جرأة الأمل أو عن وقاحة الأمل إن شئت الحقيقة, وهو العنوان الذي استعاره من معلمه القس جيرمايا رايت صاحب المواقف السوية من القضية الفلسطينة وحروب الأمريكان الرعناء! بعدها وقبل أن يمضي أوباما دورة كاملة بمجلس الشيوخ أعلن ترشحه للرئاسة, و كانت هذه أمارة أخري أن الغرب لم يزل يؤمن بالسياسة, وأنه علي استعداد أن يحاول أن يقف علي حقيقة ما يحدث خارجه, وما الذي دفع تلك المنطقة أن تنتج كتائب انتحاريين تفجّر نفسها في الحضارة الغربية ببشرها وحجرها ووسائل رفاهيتها, وخلق أوباما حالة غير مسبوقة بين المواطنين العاديين التي اعتمدت حملته علي تبرعاتهم الصغيرة في مواجهة خصم كهيلاري كلينتون صاحب الدعم الضخم والتي كانت تصفه بالحالم الذي تنقصه الدراية والخبرة بالعالم وما يحدث به وما علي الغرب فعله, وانتصر الناس لمن منحهم الأمل! الآن وبعد ثماني سنوات من المحاولة يمكننا أن نقول أن الغرب هو الآخر قد يأس من السياسة كما يأس منها انتحاريو الشرق الأوسط, والأمر الآن ليس صعود اليمين في أوروبا وأمريكا, وإنما سيطرة متطرفين من خارج السياسة علي أحزاب اليمين, فدونالد ترامب ليس سياسيا بالأساس, لكنه يمثل حالة اليأس تلك, تماما كما مثّل استفتاء بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوربي ذات الحالة, وهي تلك الحالة التي تحتاج من أنظمة المنطقة أن تكون حارس الزنزانة, فقدرة أنظمة المنطقة علي أن تكون حائط صد ضد الهجرة غير الشرعية وقمع الجماعات الجهادية هي المعيار الوحيد لنجاح تلك الأنظمة وضمان بقائها الآن, ولا يهم إن كانت اتفاقات كهذي تجري مع أردوغان أو السيسي أو محمد بن نايف, بل إن ترامب الصاعد والذي يمثّل تلك الحالة لا يخفي إعجابه بصدام حسين وبوتن, لتؤول بنا السبل -و يا للمفارقة- إلي أن نعوّل علي هيلاري كلينتون لتنقذ السياسة والمجال العام بالبلد القيّم علي الحضارة الغربية ! لقد تعلّمت الكثير من تجربة الحادي عشر من سبتمبر خاصتي, تعلّمت ألا أستهلك نفسي في التفاصيل الصغيرة, فهذا لن يفيد إن كانت المدينة تحترق, وتعلّمت أيضا أن العالم تهدّم مرارا من قبل بفعل اليأس, وتعلّمت أيضا أن الأمل وحده -حتي وإن بدا وقاحة- ما أعاد بناءه, وهو دوما ما ينتصر في الأخير!