يقول الشاعر الأندلسي ابن عبدون راثيا دولة بني الأفطس: الدهر يفجع بعد العين بالأثر فما البكاء على الأشباح والصور. ولكن الآثار الإسلامية في مصر لا بواكي لها، فهي وإن عدمت النظير في شتى بقاع الأرض، فقد خُصت من الجهات المختصة بإهمال يصل إلى حد الجريمة الكاملة، وبينما تحتفي بلاد وشعوب بآثار لم تقطع من عمر الزمان سوى المئة أو المئتين، تتقطع هنا في مصر قلوب المحبين للآثار الإسلامية وهم يتابعون يوميا اندثارها وتلاشيها، بل وتحولها إلى أماكن لاجتماع الخارجين عن القانون، ومتعاطي المخدرات ومرتكبي الموبقات؛ حتى أن المرء ليتعجب، كيف وصل الحال بنا إلى هذا الدرك المرعب؟ حيث يصبح السؤال عن إمكانية إدراك ما بقى ومحاولة الإصلاح- أمرا لا أمل يرتجى منه أو سؤال في غير محله. جبل المقطم ذلك الطود المحاط بالأسرار، الموشى بأساطير الزمان، حارس القاهرة ومأوى العبَّاد والزهَّاد والفُسَّاد أيضا، والذي يصدق فيه قول ابن خفاجة الأندلسي الذي استنطق جبلا، فكأنما سمعه يقول: وقال ألا كم كنتُ ملجأ قاتلٍ وموطن أوَّاهٍ تبتَّلَ تائبِ. وهو الجبل ذو الكرامة عند أصحاب الديانات، فسفحه غراس أهل الجنة كما ورد في غير موضع؛ وهو جبل أحبه أهل القرب وأحبهم، حتى أن أحجاره العاتية لانت فكان أن قُضَّ منها مسجد سيدي العارف بالله شاهين الخلوتي؛ الذي جاءت به الأقدار من تبريز حيث أشرقت قبل ذلك بنحو ثلاثة قرون ونصف أنوار شمس الدين التبريزي، فعمت الآفاق؛ فأصابت بآثارها المباركة مولانا جلال الدين الرومي- إلى مصر حيث تُحمَل الأرواح بالمواجيد، وتطير الأنفس بالعشق إلى استلهام المكاشفة، فتمضي الأعمار في سويعات القرب، تتشوق الوصل الذي كلما قرُب بَعُد. في زمن السلطان الأشرف قايتباي يدخل شاهين القاهرة، شابا مديد القامة وسيما ذا همة وشجاعة ونفس عزيزة مترفعة، وبطريقة ما ينضم شاهين إلى مماليك الأشرف ويصبح أحد قواده المقربين، وبعد فترة ليست بالطويلة يعتزل شاهين حياة الجندية التي رأى أنها لا تناسب مع ما جُبل عليه من حب الهدوء والعزلة، ولكن الأشرف لا يتركه بل يقربه منه، ويجعله لا يبارح مجلسه أبدا، لكن شاهين لم يكن ليجد هدأة روحه إلا في مجالس العلم، أو في الخلوة التي يتلمس فيها منجاة الإله بما هو أهل له من الثناء والشكر والدعاء؛ فيرفع رغبته تلك إلى الأشرف الذي يوافق مضطرا فيبارح شاهين مصر متجها إلى مسقط رأسه وهناك يجلس إلى شيخه العارف بالله عمر روشنى ، حتى يصبح من المقربين منه، ويأخذ عنه الطريق؛ ثم يرجع إلى مصر، فيهتدي إلى مصاحبة ولى الله محمد الدمرداش الذي كان يقيم بالعباسية فيصبح من أعز رفقائه ومريديه، حتى عُرف بعد ذلك بشاهين الدمرداشى المحمدى، كما أخذ الشيخ شاهين الخلوتي عن الشيخ أحمد بن عقبة اليمنى وحسين جابى المدفون بزاوية الدمرداش، ولما توفي الشيخ الدمرداش ترك شاهين العباسية، وسكن جبل المقطم وبنى له فيه معبدا وحفر له فيه قبرا. ولم يزل الشيخ شاهين مقيما في خلوته في جبل المقطم لا يبرح لنحو ثلاثين سنة، واشتهر أمره فتردد عليه الأمراء والوزراء لزيارته و نيل بركته، وكان كثير المكاشفة قليل الكلام جدا، وفي ذلك يقول الشعرانى: كنا نجلس عنده اليوم كاملا لا تكاد تسمع منه كلمة، وكان كثير السهر متقشفا في الملبس معتزلا الناس، وظل كذلك حتى وافته المنية في العام الأول من القرن العاشر الهجري. في سفح جبل المقطم وبالقرب من منطقة الأباجية، وفي منطقة كانت تسمى قديما بوادي المستضعفين ، يقرر نجل الشيخ ويدعى جمال الدين عبد الله، أن يبني مسجدا وضريحا يضم قبر والده- سيضم هذا المكان أيضا فيما بعد قبره وقبر ولده- ويعد المسجد من حيث الطراز المعماري فريدا من نوعه إذ تم نحته في الجبل مثل معبد حتشبسوت، والبتراء بالأردن، وقد انتهي من بنائه في عهد الاحتلال العثماني لمصر في ولاية داود باشا الخصي منتصف القرن العاشر الهجري تقريبا. ويوجد بالمسجد أربعة أعمدة من الحجر, وقبلته مشغولة بقطع من الرخام الملون والصدف، وداخل القبة أيضا مكتوب تاريخ تجديدها في العام السابع من العقد الأول من القرن الحادي عشر الهجري، وتتمثل ملحقات المسجد في مساكن وخلوات للصوفية، ومقابر منحوتة، وصهريج للماء وبيت خلاء بالإضافة إلي مجموعة من المغارات المنحوتة في الصخر، علي مستوي واحد أو علي مستويات مختلفة من الجبل، وكان يتصل بعضها ببعض بأنفاق ويتم الوصول إليها بدرجات منحوتة في الجبل وقد انمحت هذه الدرجات تماما الآن علي عكس المغارات الصغيرة والخلوات التي مازالت علي حالتها، وكان المسجد يزدحم بزواره الذين كثيرا ما اختلوا بأنفسهم في هذه المغارات والخلوات للانقطاع للعبادة، كما يؤكد البعض أن المسجد قد استخدم على فترات متباعدة للمراقبة العسكرية والأمنية، كما استخدم غيره، كمسجد الجيوشي المعروف المجاور له. وقد شهد المسجد حتى عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي نشاطا واضحا لأتباع الطريقة الخلواتية الذين كانوا يقيمون فيه الليالي للذكر والعبادة، وكان يتخذونه منطلقا يخرجون منه لوعظ الناس وردهم إلى طريق الحق. والخلواتية هي إحدى الطرق الصوفية السنية نسبة إلى محمد كريم الدين الخلوتي، والذي مات في مصر قبيل انقضاء القرن العاشر الهجري بنحو أربعة عشر عاما، وهو من أئمة الطرق الصوفية في خراسان ، وسميت بالخلوتية نسبة إلى الخلوة التي كان يلجأ إليها المتعبد أو الزاهد أو الشيخ المتبع للطريقة، والذي كان يتفرغ لجمع الأتباع وتعليم المريدين، ويروى أن الفنانة شادية كانت تتردد على المسجد، وأنها كانت تحب أن تنشد بصوتها العذب في أرجائه العتيقة. لكن كل ذلك صار أطلالا بفعل إهمال الجهات المختصة والمسئولين الذي لا يعرفون قدر هذا البلد، ولا قيمة تراثه؛ إذ انهارت منه أجزاء، كما انتزع اللصوص منه اللوحات الرخامية والحلى النحاسية التي كانت تكلل أعمدته، والمسجد معرض للانهيار في أية لحظة، وإذا حدث ذلك –لا قدّر الله- ستكون مأساة إنسانية إذ يوجد اسفل المسجد عدد كبير من بيوت البسطاء. وتبدو مئذنة المسجد- رغم كل ذلك- صامدة حافظة له مهابة واضحة، وحضورا قويا، وكأنها تعلن عن صموده الأسطوري في مواجهة كل مظاهر هذا الإهمال الإجرامي. أما الطريق المؤدية إلى المسجد والتي كانت تسمى بالمزلقان فقد اندرست؛ فأصبحت محاولات الوصول إليه أمرا ينطوي على خطورة بالغة، مما يحول دون ترميمه إذ لابد من عمل مدق آمن يوفر للمرممين من مختصين وعمال إمكانية الوصول إليه، للبدء في إنقاذ هذا الأثر النادر، وإن كان كل ذلك إلى الآن محض أمنيات تجول في خاطر محبي الآثار الإسلامية؛ لكنها لا تجد صدى لدى مسئولي وزارة الوقاف، ولا المجلس الأعلى للآثار، فإذا كان الحاضر لا يعني أحدا يصبح الحديث عن التاريخ والحضارة محض هراء… إلى الله المشتكى!