تقع قرية شقحب إلى الجنوب من دمشق بنحو سبعة وثلاثين كيلومترا قرب قريةالكسوة بين مرج راهط ومرج الصُفر عند حدود سهل حوران الذي تنبسط أراضيهالخصبة حتى نهر الزرقاء، وفيها وقعت تلك المعركة الفاصلة بين المغولوحلفائهم من الكرج والأرمن بقيادة قطلوشاه قائد جيوش السلطان محمود غازانبن أرغون سلطان الإليخانيين بفارس، وكان السلطان غازان قد أعلن دخولهالإسلام قبيل توليه السلطة استجابة لطلب الأمير نوروز حتي ينال دعمه فيصراعه على السلطة مع أخيه. وبالرغم من إسلام غازان إلا أنه لم يكف عن العدوان على بلاد الشام، كماحرص على تكوين حلف مع الفرنجة للقضاء على دولة المماليك في مصر والشام، وطبقا لما تم من اتفاق بين الجانبين قام غازان بتسيير حملة كبيرة كان علىرأسها، وكان هدف الحملة اجتياح بلاد الشام وتخليص الأرض المقدسة من أيديالمسلمين وإعادتها إلى الفرنجة، وكان ذلك عام 699ه. ودعا غازان الأرمنللانضمام اليه، وتمكن من الاستيلاء على حلب، وانضم إليه هناك تابعه الملكهيتوم الثاني ملك الأرمن، وكان من ضمن قواته بعض فرسان الهيكل وفرسانالقديس يوحنا. وقد انتصر هذا التحالف على المماليك في معركة واديالخزندار أواخر ربيع الأول 699 ه على الرغم من أن خسائر المماليك كانتقليلة – أقل من الألف- بينما أوصلت بعض التقديرات خسائر المغول وحلفائهمإلى أربعة عشر ألف قتيل- واصل المغول تقدمهم حتى وصلوا الأغوار فتهبوهاثم توجهوا تلقاء القدس، ومنها إلى غزّة إلا أنهم لم يستطيعوا دخول قلعةدمشق التي تحصن بها الأمير علم الدين سنجر المنصوري نائب قلعة دمشقالمعروف بأرجواش الذي رفض الخضوع للمغول بعد أن نهبوا المدينة. يضطر محمود غازان إلى العودة إلى بلاده وترك الشام بعد أن بلغت التهديداتللحدود الشرقية مبلغا كبيرا، وينيب غازان قطلوشاه عنه، وتستمر القواتالمغولية في أعمال السلب والنهب والتخريب والقتل حتى وصلوا حمص وبعلبكونشروا بأفعالهم البربرية الرعب في ربوع الشام، مما اضطر كثيرا من أهلهاإلى الفرار إلى مصر التي كان بها الخليفة العباسي المستكفي بالله، وسلطانالمماليك الناصر محمد بن قلاوون، وكان القلق قد بلغ بالمصريين مبلغه إذعلموا بنية المغول في مواصلة السير إلى مصر. استخدم المغول الدعاية السوداء من أجل هدم الروح المعنوية لأهل الشامفأصيب الناس باليأس، وكان ابن تيمية بالشام وكان له دور في إثناء الناسعن المغادرة من أجل أن يواجهوا هؤلاء الغزاة، وكان الأمر قد اختلط علىعامة الناس بشأن إظهار المغول للإسلام، كما أنهم لا يدخلون في حكم الفئةالباغية لأنهم لم يدخلوا أصلا في طاعة الإمام حتى يخالفوه، وقد أفتى ابنتيمية بأنهم من جنس الخوارج إذ أنهم "يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق منالمسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصي والظلم، وهممتلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة". كما كان يدور بين الجند مثبتالهم بقوله: إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مصحف فاقتلوني، كما كانيقول: إنكم لمنصورون والله إنكم لمنصورون! فيقولون: قل إن شاء الله،فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، ويتأول في ذلك الآيات ومنها: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِلَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ ﴾الآية60 سورة الحج. وخرجت العساكر الشامية إلى ناحية قرية الكسوة استعدادًا للقتال، وجاءالمغول فخاف أهل الشام أن يكون الجيش الشامي قد فر خوفًا من الهزيمة،وأصاب الناس هم وغم شديد، وذلك في يوم الخميس التاسع والعشرين من شعبان،فلما كان آخر هذا اليوم وصل أحد أمراء دمشق، فبشر الناس بأن السلطان قدوصل وقت اجتماع العساكر المصرية والشامية، وتابع المغول طريقهم من الشمالإلى الجنوب ولم يدخلوا دمشق، بل عرجوا إلى ناحية تجمع العساكر، ولم يَشغلوا أنفسهم باحتلال دمشق، وقالوا: إن غَلبنا فإن البلد لنا، وإنغُلبنا فلا حاجة لنا به. ويروي ابن كثير أحداث ذلك الموقف العصيب فيقول:" وأثبت الشهر ليلة الجمعةالقاضي تقي الدين الحنبلي، فعُلقت القناديل، وصليت التراويح، واستبشرالناس بشهر رمضان وبركته، وأصبح الناس يوم الجمعة في همّ شديد وخوف أكيد؛لأنهم لا يعلمون ما خبر الناس. أصبح الناس يوم السبت على ما كانوا عليهمن الخوف وضيق الأمر، فرأوا من المآذن سواداً وغبرة من ناحية العسكروالعدو، فغلب على الظنون أن الوقعة في هذا اليوم، فابتهلوا إلى الله -عز وجل- بالدعاء في المساجد والبلد، وضج البلد ضجة عظيمة، ووقع في ذلك الوقتمطر عظيم غزير، ثم سكن الناس، فلما كان بعد الظهر قرئت بطاقة بالجامعتتضمن أن في الساعة الثانية من نهار السبت هذا اجتمعت الجيوش الشاميةوالمصرية مع السلطان في شقحب، وفيها طلب الدعاء من الناس والأمر بحفظالقلعة والتحرز على الأسوار فدعا الناس في المآذن والبلد، وانقضى النهاروكان يوماً مزعجاً هائلاً. وكانت العساكر الشامية قريباً من قريةالكُسوة، وقد أفتى العلماء الجند بضرورة الإفطار من أجل أن يتقووا علىعدوهم، وقام المسلمون بتنظيم قواتهم، فكان السلطان الناصر في القلب، ومعهالخليفة والأمراء وأبناؤهم والقضاة والموالي. وقد قام السلطان الناصر بالثبات في أرض المعركة مع قواده، وأمر بأن يقيدفرسه حتى لا يهرب، وكتب وصيته، وعزم على إحدى الحسنيين: النصر أوالشهادة، والتحم الجيشان، وكان قتال المغول عنيفًا حتى أنهم مالوا علىالمسلمين ميلة عظيمة، وقتلوا كثيرا من سادات المسلمين وأمرائهم، وكانلثبات جند الشام طوال الليل الأثر الأكبر في عدم انكسار شوكة جيشالمسلمين، واستحر القتل، ومالت الكفة لصالح المسلمين، وتغير وجه المعركةتمامًا في اليوم التالي، حيث أنه لما طلع النهار أراد المغول أن يلوذوابالفرار بعد أن ترك المسلمون ثغرة في الميسرة ليمروا منها، فتتبعهمالجنود المسلمون وقتلوا منهم عددًا كبيرًا، كما أنهم مروا بأرض موحلة،وهلك الكثيرون منهم فيها، وقُبض على بعضهم. قال ابن كثير: "فلما جاء الليل لجأ التتار إلى اقتحام التلول والجبالوالآكام، فأحاط بهم المسلمون يحرسونهم من الهرب، ويرمونهم عن قوس واحدإلى وقت الفجر، فقَتلوا منهم ما لا يعلم عدده إلا الله عز وجل، وجعلوا يجيئون بهم من الجبال فتضرب أعناقهم ووصل التتار إلى الفرات وهو في قوةزيادته، فلم يقدروا على العبور، والذي عبر فيه هلك، فساروا على جانبه إلىبغداد، فانقطع أكثرهم على شاطئ الفرات، وأخذ أهل العراق منهم جماعةكثيرة". وفي يوم الثلاثاء الخامس من رمضان دخل السلطان الناصر محمد بن قلاوون إلىدمشق، وبين يديه الخليفة، وزُيّنت البلد، وكان بقاءه في دمشق إلى الثالثمن شوال ثم عاد إلى مصر فاستقبل استقبالا عظيما، وبانكسار هذه الحملةانتهت حملات المغول على بلاد الشام، إذ خابت مساعيهم في التحالف معالفرنجة من أجل إعادة الوجود الصليبي في بلاد الشام، وما لبث المغول بعدطويلا حتى دخلوا في دين الله أفواجا، وانضووا تحت لواء الإسلام يحاربون أعداءه ويبلون أحسن البلاء وينشرون الدين الحنيف في ربوع الأرض. وكانت هذه الحملة هي الثالثة من حملات التتار على بلاد الإسلام، وآخر الحملات الكبرى التي قام بها التتار يريدون بها استئصال بيضة الإسلام، إذسرعان ما أسلموا ودخل أغلبهم في دين الإسلام صادقين، وكانوا مددًا للجيوشالإسلامية يجاهدون معها أعداءها وينشرون الإسلام في شتى ربوع الأرض.