لعل علاقة مصر بالتصوف علاقة وطيدة، ليس الآن فقط بل منذ القدم، وذلك من خلال ما تحوي من بوادي واسعة وفقر شبه دائم لأهلها، وبساطة في كل شيء، كل هذا يخلق منهم رجالا متصوفون بفطرتهم، أو يميلون إليه في رشدهم، فتعدد أعلام التصوف المصري، وعلى رأسهم ذو النون، الذي يعد أول من غرس جذور التصوف في مصر، ويقال إنه أول من تكلم من الصوفية عمومًا في علوم المقامات والأحوال، فقال عنه الجامي: "وكان ذو النون المصري رأس الصوفية أول من استعمل رموز الصوفية فرارًا من اعتراض المعترضين" غير أن ذا النون كان معتدلا في تصوفه، وكان لا يتحدث عن الاتحاد والوصول بقدر ما يتحدث عن المعرفة الإلهية، بالإضافة لذلك كان بارعا في الكيمياء ويقال أنه استطاع فك بعض الرموز البرديات في أخميم. ذو النون نسبه ومحنته ولد أبو الفيض ذو النون المصري واسمه ثوبان بن إبراهيم الأخميمي، وقيل الفيض بن إبراهيم في أخميم في مصر سنة 179 ه الموافق 796م، كان أبوه نوبيا فتلقى علومه في بلاد النوبة، وتعرف على مناهج التفكير كلها، وعندما بلغ سن الشباب كان قد ألمّ بكثير من العلوم، فحفظ القرآن الكريم، وتعرف على المذاهب المختلفة وتأثر بموطأ مالك. وتتلمذ على مشايخ معروفين في عصره أهمهم الإمام مالك بن أنس وإسرافيل العابد المغربي وفاطمة النيسابورية التي لقيها في مكة. أما عن تصوف ذو النون وما تعرض له من محن فيقول السلمي: "ذو النون أول من تكلم ببلدته فأنكر عليه عبد الله بن عبدالحكم، وهجره علماء مصر.. " وقيل عنه أنه أحدث علما لم يتكلم فيه السلف، فهجروه ورماه البعض بالزندقة، فقال له أخوه: إنهم يقولون: إنك زنديق، فقال: "وما لي سوى الإطراق والصمت حيلة.. " تنقل ذو النون وترحاله ولد ذو النون في صعيد مصر كما أسلفنا لكنه، ذهب إلى مكة والشام، ثم عاد به المطاف فاستقر في الجيزة وراح يعقد في المسجد حلقات علم وكتب العديد من المؤلفات أشهرها كتاب الركن الأكبر، وكتاب المجربات، وكتاب العجائب، وأشعار في حجر الحكماء. ويتحدث ذوالنون عن رحلاته فيقول: "ارتحلت ثلاث رحلات وعدت بثلاثة علوم، أتيت في الرحلة الأولى بعلم يقبله الخاص والعام، وأتيت في الرحلة الثانية بعلم قبله الخاص ولم يقبله العام، وأتيت في الثالثة بعلم لم يأخذ به الخاص ولا العام فبقيت شريدًا طريدًا وحيدًا.. " يشرح هذا القول أحد الباحثين في تاريخه فيقول: "وكان الأول علم التوبة وهوعلم يتقبله الخاص والعام، وكان العلم الثاني علم التوكل والمعاملة والمحبة يقبله الخاص لا العام، والثالث هو علم الحقيقة الذي لا يدركه علم الخلق ولا عقلهم فهجره الناس وأنكروه عليه، حتى انقضت أيام حياته.. " علاقة ذو النون بالهيروغليفية وبعض وصاياه يقول أحد الباحثين المصريين وهو عكاشة الدالي الذي يعمل محاضرا في جامعات لندن ومتحف بيتري في إنكلترا إن أيوب ابن مسلمة والصوفي ذو النون المصري وجابر بن حيان وأبو بكر بن وحشية وأبو القاسم العراقي ساهموا في فك طلاسم الخطوط المصرية قبل وصول الحملة الفرنسية إلى أرض مصر عام 1789م بألف سنة على الأقل، وكان ذو النون يفهم معانيها وينقل ما فيها من أفكار إلى الناس. وكان ذو النون المصري يوصي طلابه قائلا: "جالس من تكلمك صفته، ولا تجالس من يكلمك لسانه.. " ويقول منشدا: أموت وما ماتت إليك صبابتي ولا رويت من صرف حبك أوطاري وعندما سأله رجل: "متى تصح عزلة الخلق؟" فقال: "إذا قويت على عزلة النفس.. " ويقول ذو النون: "من تذلل بالمسكنة والفقر إلى الله رفعه الله بعز الانقطاع إليه" ويقول: "لا تسكن الحكمة معدة مُلئت طعامًا.. " توفي ذو النون في الجيزة سنة 245ه ودفن في مقابر أهل المعافر، وروي أن الطير الخضر أخذت ترفرف فوق جنازته حتى وصل إلى قبره.