في زمن بعيد وفي يوم سعيد شهدته أخميم تلك البلاد الجنوبية الحارة النائية بنفسها عن اللغو والصخب شُرفت الديار المصرية التي كانت وقتها إحدى ولايات الدولة العباسية باستقبال وليد ذي شأن لن يفارقها إلا لسياحاته القصيرة ثم يعود ليدفن بين جنباتها مسطرًا بما تركه من أقوال سطورًا من نور في تاريخ التصوف الإسلامي؛ ليشهد له كثيرون في لاحق الأيام إنه أحق رجال التصوف بأن يُطلق عليه رائد علم التصوف إن جاز التعبير. لأب نوبي كان مولى لإسحاق بن محمد الأنصاري كما تُجمع غالبية المصادر وُلد ذو النون المصري في أواخر خلافة العباسي أبي جعفر المنصور أي في أوائل سنوات النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، وُلد بأخميم تلك البلدة الصغيرة التي تقع حاليًا بسوهاج فأقام بها فترة ثم هجرها نتيجة حادثة مفادها إنه سمع يومًا صوت لهو ودفوف: فسأل: ماهذا؟ قيل: عرس. وسمع بجانبه بكاءً وصياحًا، فسأل: ماهذا؟ قيل: فلان مات. قال: أعطى هؤلاء فما شكروا وابتلى هؤلاء فماصبروا، لله علي إن بت بهذا البلد فخرج فورًا إلى مصر فقطنها، والمقصود بمصر هنا الفسطاط والعسكر حيث لم تكن القطائع الطولونية والقاهرة الفاطمية قد بُنيتا بعد. اختلفت المصادر في اسمه مابين ثوبان بن إبراهيم وفيض بن إبراهيم وأحمد بن فيض وإن كان الأول هو ما نرجحه لتكرار اسم ثوبان فيما رُوي عنه، وقيمته في عالم التصوف لا تنبع فقط بسبب كونه من أوائل الصوفية الذين شهدهم العالم الإسلامي ولكن لأنه أول من تحدث عن ترتيب الأحوال ومقامات الأولياء وهو حديث سوف يزدهر في لاحق الأيام ليصبح أحد الأعمدة الهامة في بناء التصوف الرحب. لذي النون مثل غيره من رجالات الحقيقة عبارات دقيقة ومعانٍ رقيقة تناقلتها العقول جيلاً بعد جيل، ولعل أوقعها على النفس ما قاله في سبب انقطاعه عن الدنيا حين حكى أنه خرج يومًا إلى الصحراء فوجد قنبرة عمياء والقنبرة طائر صغير مغرد قد سقطت من وكرها فانشقت الأرض وخرجت منها سكرجتان أي قدرتان واحدة من الذهب والأخرى من الفضة في إحداهما سمسم وفي الأخرى ماء فجعلت تأكل من هذا وتشرب من هذا فقال ذو النون: حسبي قد تبت، وأضاف: ولزمت الباب إلى أن قُبلت. وبغض النظر عن صدق الرواية من عدمه فلا يستطيع أحد إنكار مافيها من معانٍ عظيمة تُريح القلوب وتجليها، فالمدقق فيها سوف يدرك أن تصوف الرجل أتى عن طريق تدبره لما رآه من توزيع الرزق على كل المخلوقات بالعدل والقسطاس وهو فعل يتكرر يوميًا أمام أعين كل البشر يشاهدونه بلا اكتراث، ولكن في حالة ذي النون كان لهذا الفعل أثرٌ في نفسه جعله يسلك مسلكاً مختلفاً، وهو ما يشذ قليلاً عن قاعدة أهل التصوف حيث تأتى توبة أغلبهم بعد مرورهم بفترات من المحن والإحن. وللجنوبي المصري دلو قد أدلاه في علم الحديث حيث روى عن مالك وابن لهيعة والليث بن سعد وفضيل بن عياض وسفيان بن عيينة، وهو من القلة الذين رووا الموطأ عن الإمام مالك ورغم ذلك فعندما سُئل عن عدم اشتغاله بالحديث قال: للحديث رجال وشغلي بنفسي استغرق وقتي والحديث من أركان الدين ولولا نقص دخل على أهل الحديث والفقه لكانوا أفضل الناس في زمانهم ألا تراهم بذلوا علمهم لأهل الدنيا يستحلبون دنياهم فحجبوهم واستكبروا عليهم وافتتنوا بالدنيا لما رأوا من حرص أهل العلم والمتفقهين عليها فخانوا الله ورسوله وصار إثم كل من تبعهم في عنقهم جعلوا العلم فخًا للدنيا وسلاحًا يكسبونها بعد أن كان سراجًا للدين يُستضاء به. وكما هو حال أهل التصوف في وقته عانى ذو النون من تعنت فقهاء أهل زمانه الذين وشوا به لدى الخليفة جعفر المتوكل ورموه بالزندقة تارة وتارة أخرى بنشر التشيع فكان يُنشد ويقول: ومالي سوى الإطراق والصمت حيلة ***ووضعي كفي تحت خدي وتذكاري وعندما زاد القيل والقال بعث المتوكل في طلبه فاقتيد إلى بغداد في الحديد، في يده الغل وفي قدميه القيد والناس يبكونه، وعندما مثل أمام المتوكل وتحدث، أعجب به الخليفة واعتبره من الزهاد أولياء الله في الأرض، وأمر بإكرامه وكان يقول: إذا ذكر الصالحون فحيهلا بذي النون ولذي النون مقالات كثيرة في حضرة المتوكل منها ما قاله في وصف أولياء الله عزَّ وجلَّ عندما سأله الخليفة عن صفاتهم فقال: هم قوم ألبسهم الله النور الساطع من محبته، وجللهم بالبهاء من إرادة كرامته، ووضع على مفارقهم تيجان مسرته. وقدر ذو النون في التصوف يأتي بسبب كونه من أوائل من تكلم في مقامات الأولياء كما ذكرنا سابقًا وهو حديث لم تعرفه مصر ولا العالم الإسلامي من قبله، وهو ما أغضب الفقيه المالكي عبد الله بن الحكم مفتى الديار وقتها الذي أنكر عليه حديثه فهجره العلماء وشاع عنه إنه أحدث علمًا لم يتكلم فيه السلف، وهي تهمة كانت كفيلة بقتله وقتها. وذو النون صاحب سياحات كثيرة كعادة غالبية أهل التصوف الذين يسيحون في الأرض يتدبرون وينظرون في ما خلق الله وقد ذهب للشام وطاف بجبل لبنان وأقام مدة في دمشق وطرسوس. وله أشعار كثيرة في الحب الإلهي، وينسب بعض الباحثين أشعار رابعة الشهيرة له: أحبك حبين حب الهوى *** وحبا لأنك أهل لذاكا فأما الذي هو حب الهوى *** فذكر شغلت به عن سواكا وأما الذي أنت أهل له *** فكشفك للحجب حتى أراكا فما الحمد في ذا ولا ذاك لي *** ولكن لك الحمد في ذا وذاكا وأصل ذلك رواية أوردها أبو نعيم في «حلية الأولياء وطبقات الأصفياء» حين قال عن سعيد بن عثمان إنه قال: كنت مع ذي النون في تيه بني إسرائيل فبينما نحن نسير إذا بشخص فقال ذو النون: انظر فإنه لا يضع قدمه في هذا المكان إلا صديق. فنظرت فإذا هي امرأة فقلت إنها امرأة، فقال صديقة ورب الكعبة فابتدر وسلم عليها فردت السلام ثم قالت ما للرجل ومخاطبة النساء؟ فقال لها إني أخوك ذا النون ولست من أهل التهم فقالت مرحبًا حياك الله بالسلام. فقال لها: ما حملك على الدخول إلى هذا الموضع؟ فقالت: آية في كتاب الله تعالى :( ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) فكلما دخلت إلى موضع يُعصى فيه لم يهننى القرار فيه بقلب قد أبهلته شدة محبته، وهام بالشوق إلى رؤيته. فقال لها: صفي لي فقالت: يا سبحان الله! أنت عارف تتكلم بلسان المعرفة تسألني؟ فقال يحق للسائل الجواب. فقالت: نعم، المحبة عندي لها أول وآخر، فأولها لهج القلب بذكر المحبوب، والحزن الدائم، والتشوق اللازم، فإذا صاروا إلى أعلاها شغلهم وجدان الخلوات عن كثير من أعمال الطاعات. ثم أخذت في الزفير والشهيق وأنشأت تنشد الأبيات المنسوبة لرابعة العدوية. وآن للمحارب أن يستريح بعدما أوذي كثيرًا ممن أُغلق عليهم، فتوفى ذي النون عام 245 هجرية في التسعين من عمره بعد أن خاض حياة حافلة متنقلاً بين جنبات التصوف ويوم تشييع جنازته نُقل إلى قرافة أهل المعافر بجبل المقطم عن طريق النهر من الجيزة إلى الفسطاط خوفًا من زحام الناس على الجسر الذين شيعوه ببكاء عظيم .