متي يفيقون من سكرة الزهو بالانتصار الذي مكنّهم منه الشعب، والتغاضي عن عديد من خروقات نزاهة العملية الانتخابية والتجاوزات التي شابتها، ويتخلون عن نبرة الاستكبار التي تناقض خلق الإسلام، وعن التقافز على مناصب السلطة، التي يجب أن يكونوا أول من يوقن أنها زائلة (فلا يبقى إلا وجه ربك!)، ويتوفرون، من ثم، على العمل الجاد والمخلص لخدمة هذا الشعب العظيم الذي شرفّهم بهذه المسئولية التاريخية؟ إن عليهم أن يتمثلوا مقولة “الملك الضليل”، ملك شعراء العرب، إمرؤ القيس البليغة: “لا صحو اليوم ولا سكر غدا، اليوم خمر وغدا أمر”. وليعلموا أن الشعب منحهم تفويضا مشروطا وموقوتا. الشرط هو حسن الأداء بما يرقي لتطلعات الشعب منهم والعمل على استكمال ثورة الفل الرائعة ونيل غاياتها في الحرية والعدل والكرامة الإنسانية. والتوقيت هو موعدالانتخابات القادمة إن أحسنوا ولو قليلا، أو هو وقت نفاد صبر الشعب عليهم، قبل ذلك إن هم أساءوا التصرف في تفويض الشعب لهم. فليوقنوا أن الشعب لم يمنحهم تفويضا مطلقا، حيث إنتهي عهد شعب مصر العظيم بالتفويض المطلق لأي فرد أو جماعة، من لحظة قيام ثورة الشعب العظيمة ونجاحها في الانتصار الأولي لثورة الفل في يناير 2011 بتنحي الطاغية رأس الحكم التسلطي الساقط الذي استبد، على رأس تشكيله العصابي الحاكم، بالبلاد والعباد لأطول من ثلاثة عقود. وليعلموا أن الشعب قد منحهم هذا التفويض المشروط والموقوت أملا في أن تكون عقيدتهم الإسلامية عاصمة لهم من مزالق الفساد والاستبداد التي هوت إليها عصابة حكم الفساد والاستبداد التي تحكمت في مصائر الشعب، باطشة وناهبة، وما زالت. وسيقف الشعب لهم بالمرصاد إن لم يرقوا إلى مستوى الثقة التي أولاهم إياها. وتتمثل محنة القوى السياسية الإسلامية الصاعدة في ثلاثة إمتحانات صعبة سيخضعهم لها الشعب العظيم: الهوية، والتطهير، والبناء. • إمتحان الهوية وينطوي على الاختيار بين قطبين الأول، وهو وحده الإلهي الثابت والمقدس والمعصوم، ويتمثل في المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية السمحاء والتي تعني إسلام العقل والعدل والإخاء والمساواة والمحبة والتراحم. والثاني هو البشري والمتغير، والذي قد يُدنَّس بأهواء البشر وقصورهم، وهو أحكام الفقه التي يتوصل لها بشر يجتهدون في تفسير الشريعة، وفيه، من ثم، المستنير والميسِّر، والممكِّن من التقدم في القرن الحادي والعشرين من مسيرة البشرية،؛ولكنه لا يخلو من المتشدد والمعسِّر والرجعي المكرِّس للتخلف. ويتمثل ذلك الأخير من صنف الفقه المكروه، وفق الإسلام القويم، في تطبيق أحكام الشريعة بالمفهوم الشكلي والقاصر المتمثل في تطبيق الحدود، ولو من دون توافر شروطها، وفي حماية العفة الظاهرية (التحجب والحشمة في اللباس ومنع الخمور ومنع القبلات والمشاهد الحميمة في الأعمال الفنية وحجب التماثيل). والمؤكد أن الهوية المجتمعية التي ستسعي التيارات الإسلامية الفائزة في الانتخابات التشريعية لوسم المجتمع بها ستقع بين هذين الحدين الأقصى. ونتمنى أن يهديهم حسن إسلامهم، وحرصهم على رضى الشعب، والتفاهم مع حلفائهم من الكتل السياسية الأخرى في المجلس، إلى الى الاقتراب من القطب الأول. وتقديري أن الجنوح إلى القطب الثاني سيكلفهم بعضا من غضب الشعب أو، على الأقل بعض فئاته، وسيجر البلاد إلى وهدة العذاب والتخلف التي سقطت فيها أنظمة حكم رجعية بإسم الإسلام. وليكن لهم في المواقف المستنيرة لتيارات الإسلام السياسي الفائزة في انتخابات تونس والمغرب، أسوة حسنة. • إمتحان التطهير بداية، من حق مجلس الشعب القادم، بل من واجبه، أن يوقف العمل بقانون الطوارئ من دون أي إبطاء. ويتصل بذلك الضغط على السلطة التنفيذية لإلغاء كل الإجراءات الاستثنائية التي إتخذها المجلس العسكري في هذا الصدد، مثل إطلاق سراح جميع المعتقلين والمنع البات لمحاكمة أي مدني أمام غير القاضي الطبيعي تمهديدا لإلغاء جميع اشكال القضاء الاستثنائي من النظام القضائي لمصر بعد الثورة. ونضع في مقام التطهر من آثام الحكم السابق على انعقاد مجلس الشعب الأول بعد الثورة، مهمة الوفاء التام والعاجل بحقوق أسر شهداء الثورة ومصابيها بما يحقق لهم الكرامة والفخار بتضحياتهم، فلولا تضحياتهم هم ماانعقد هذا المجلس أبدا. ولن يتم تطهير البلاد من جرائر النظام الساقط إلا بالإصلاح الجذري لمنظومة الأمن، عقيدة وتنظيما، بحيث تعود، حسب نص الدستور، هيئة مدنية غايتها حماية أمن المواطنين واحترام حقوقهم. وإلى أن يحدث ذلك، فلن يعود الأمن لمصر إلا إذا أصبحت أجهزة الأمن، المدنية والعسكرية، تحمي التظاهرات السلمية، وتضمن سلامة المتظاهرين، وليس فقط المباني، وإن فشلوا حتى في ذلك وأحرق المجمع العلمي تحت أعينهم وفي وجود القوات المسلحة الخاصة! ويتعين ألا ينسى الفائزون أن أهوال الفساد الفاجر التي قام عليها الحكم التسلطي والذي اندلعت ثورة الفل لإسقاطه، مابرحت تتكشف. ويقيني أن لن تتكشف بالكامل إلا بعد قيام الحكم الديمقراطي الصالح، وخصوصا تكريس حرية تداول المعلومات والاستقلال التام للقضاء. ولكن السلطة الانتقالية التي قامت بعد إسقاط الطاغية المخلوع، أي المجلس الأعلى للقوات المسلحة وحكوماته الذلول المتعاقبة، قد تقاعست بتعمد مريب عن كشف سوءات النظام الساقط في جرائم قتل المتظاهرين سلميا وإصابتهم بدناءة منقطعة النظير، وفي جرائم الإفساد السياسي والفساد المالي الفاجر، ما يشي بأن بعضا منه ما زال قائما ومحميِّا، إن لم يكن مسيطرا، ولولا جهود بعض المواطنين المخلصين لظل ما تكشّف حتى الآن طي التستر والكتمان. وإمتنعت السلطة الانتقالية كذلك عن مساءلة مجرمي النظام الساقط عن الإفساد السياسي المعروف للكافة وتثاقلت عن مساءلتهم جديا عن قتل المتظاهرين السلميين وحتى عن الفساد المالي بما قد ييسر لهم في نهاية المطاف الإفلات من العقاب على ما اقترفوا من آثام في حق البلد والشعب. كل هذا الامتناع عن كشف الفساد وعقابه يشي بأن السلطة الانتقالية كانت ضالعة فيه قبل الثورة، وربما بعدها، ولهذا يحرصون على “خروج آمن”، يروِّج له بعض ضعاف النفوس، تماما كما كان الحال في نهايات عصر الطاغية المخلوع. ولكننا ننزه نواب الشعب عن هذا السلوك المعيب، وجلُّهم من التيارات الإسلامية الفائزة كانوا بين من سامهم النظام الساقط بئس الملاحقة وأقذر صنوف التنكيل والعذاب. ويقيني أن الشعب إختارهم ليمثلوه أملا في أن قربهم من صحيح الإسلام سيمكنهم من أن يقتصوا لهم من المفسدين في الأرض الذين لعنهم الله في كل كتاب. ومن ثم، فإن مدى النجاح في تطهير البلاد من خطايا الفساد والإفساد قبل الثورة وبعدها سيكون أحد الأسئلة الصعبة التي يوجهها الشعب، في إمتحان التطهير، للفائزين في انتخابات مجلس الشعب القادم، لا سيما الإسلاميين منهم.