عاشت صحافة الترافيك ومواقع التواصل الاجتماعي أمس، ساعات حافلة بالأخبار والشائعات والتباكي والتندر والتبكيت والحبكات الميلودرامية والعاطفية والأحاديث عن البطولة والحب والسجون والتمويل الأجنبي ثم تلاشي كل شيء فجأة, وفيما رفعت الحكومة وعملاؤها رايات الانتصار في الأزمة، مشيدة بحنكة المسؤولين في التعامل مع الحدث, اكتفي المتندرون بالأوقات القصيرة الممتعة التي مرت سريعا. بدأ أمس بخبر يبدو كأخبار الصدارة في نشرة أخبار إذاعة صوت العرب في سبعينيات القرن الماضي، حين كان اختطاف الطائرات جزءا من الضجيج الذي كانت تحدثه المقاومة الفلسطينية كي يتذكر العالم قضيتها, غير أن هذه المرة كان اختطاف الطائرة المصرية المتوجهة من الإسكندرية للقاهرة مختلفا كثيرا, فسلامة الطيران المدني صارت الآن من خطوط النظام العالمي الحمراء، والمساس بها يعد تهديدا مباشرا لأيقونة الرفاهية الغربية, وتلك الخطوط الحمراء هي ما يفصل بين المارقين الذين يُجمع العالم علي اجتثاثهم وبين من هم مع هذا العالم في معركة اجتثاث المارقين, كما تفصل تلك الخطوط أيضا بين ما يمكن تصنيفها دولاً بمقدورها أن تنتمي لهذا العالم, وتلك الكيانات البدائية التي لا يمكن ائتمانها علي سلامة البشر المسافرين.. على أي حال، ففيما يري الكثيرون الآن عملية خطف الطائرة المصرية مجرد دعابة عابرة أو حدثا هامشيا تم إحتواءه , فللقصة جوانب كثيرة يجب أن نتوقف عند أهمها رداءة الشائعات لا أدري فيما كان يفكر ضباط الجهاز الذي أطلق شائعة الخاطف العاشق تلك, بل و خلق عناصر الحبكة العاطفية كاملة لتصطاد زبائنها, و كلها عناصر قابلة للتفنيد والدحض في ثوان معدودة .. وفي تقديري أن إغراق الأجهزة الأمنية في خلق دراما الاستهلاك المحلي قد أثّر كثيرا علي رؤيتهم للأشياء .. بالطبع خلق المغامرة العاطفية كان لشغل الجدل العام عن التفكير في دوافع أخري لخطف الطائرة كالأسباب السياسية أو الإرهاب مثلا, لكن تمرير روايات كتلك ينجح أحيانا حين تكون متحكما في الأمور كأن تكون الحادثة في مصر كي تتمكن من فلترة المادة الصحفية المنشورة, لكن عندما يكون الخارج طرفا في القصة, فعندها لا تسطيع السيطرة علي التغطية الإعلامية أو أن تملي علي الجرائد والمواقع و قنوات التلفاز مرويتك الخاصة للحدث! رداءة المخبرين وكما كانت شائعات الأجهزة رديئة الحبكة ومتسرعة وغير منضبطة , كان أداء المخبرين أكثر رداءة علي أهمية الحادث كفرصة مهمة لقليل من العمل المأجور, ففيما خرجت كتائب الأمن الإلكترونية لتنفي القصة برمتها تحت عناوين تبكيت مختلفة, وهو ما بدا صعبا في ظل امتلاء الفضاء الإلكتروني بأخبار و تفاصيل الحادث, كان المخبرون المخضرمون أكبر الخاسرين حقا, ففي محاولة من النائب مصطفي بكري توظيف الحادثة سياسا , ذهب إلى التأكيد علي أن إختطاف الطائرة يأتي في إطار مؤامرة علي مصر لكسر إرادتها لتوقف حملتها علي منظمات المجتمع المدني الممولة من الخارج وأن مطالب الخاطفين تركزت علي الإفراج عن سجناء التمويل الأجنبي في مصر, والسيد بكري كما يعلم الجميع هو من هو في عالم التمويل الأجنبي حيث أن اسمه كان دائم الحضور في كشوف بركة كل أنظمة المنطقة بدءا من صدام حسين و القذافي, وانتهاء بزين العابدين بن علي و الملك عبد الله, و هذه ليست إدعاءات ألقيها جزافا وإنما هي حقائق تم نشرها في الصحافة المصرية و العربي,ة كما تم نشر معلومات رسمية في هذا الشأن من بعض تلك الأنظمة كتونس مثلا في أعقاب ثورتها, غير أن السيد بكري حين اختار توظيف الحادثة لصالح من يدفعون له اختار موضوعا لا يجب أن يتطرق هو بالذات لذكره, كما نسي السيد بكري أن قضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني ليس بها سجناء حتي تاريخه. كارثية الرداءة لكن دعنا من رداءة شائعات الأجهزة و رداءة مخبريها, ولنركز أكثر علي ما هو كارثي بحق .. لقد انتهت أزمة اختطاف الطائرة سريعا, وللأجهزة الأمنية أن تتباهى بدور حاسم حقيقيا كان أم وهميا في حلها, لكن هذا لا يغير من حقيقة الأمر شيئا, لقد تم اختطاف طائرة ركاب مدنية, وبصرف النظر عن كون الحزام الذي كان يرتديه الخاطف حزاما ناسفا أو حزام طبيا يشبه الحزام الناسف, و بصرف النظر إن كان ما حدث هو عمل قام به شخص موتور أم سياسي يائس, و بصرف النظر عما إذا كان ما حدث هو حادث حقيقي أم مفتعل و مفبرك برداءة, فهذا كله أيضا لا يغير من الأمر شئيا, لقد حدث اختراق أمني جسيم لأنظمة تأمين مطار مهم بمصر, فإجراءات السلامة في المطارات كما تقتضي الحيلولة دون دخول متفجرات أو أسلحة علي متن الطائرات, فهي أيضا تحظر أي مواد قد يمكن استخدامها كأدوات لتهديد سلامة النقل الجوي أو قد تستخدم في إلحاق الضر بالركاب أو إرهابهم كالسوائل مجهولة المصدر و الولاعات أو الأشياء التي تبدو شبيهة بأدوات الاختطاف حتي و لو كانت لعبة أطفال علي شكل مسدس بلاستيكي , فما بالنا بدولة –من المفترض- يتم إختراق أكبر ثلاث مطارات دولية بها في غضون عدة أشهر , في إحداها يتم تمرير قنبلة تودي بحياة 217 راكبا روسيا , و في الحادثين الأخريين استطاع حمار تجاوز بوابة دخول أكبر مطاراتها في الأولي, و في الثانية استطاع شخص المرور وهو يرتدي حزاما يبدو تماما كحزام ناسف تخرج من ثناياه الأسلاك الزرقاء! هذا يقودنا إلي فهم كارثية ما حدث, لم ترتكب الأجهزة الأمنية التي تشرف علي سلامة الطيران في مصر أخطاء جسيمة و حسب, وإنما كوارث تجاوزت تلك الخطوط الحمراء التي تفصل بين ما يمكن تصنيفها دولاً بمقدروها أن تنتمي لهذا العالم, وتلك الكيانات البدائية التي لا يمكن إئتمانها علي سلامة البشر المسافرين كما أشرت آنفا .. وهنا تكمن الكارثة!