رأت ملك الموت يبتسم لها منذ تسبيحها في فلك أبيها.. كانت تنظر إليه والناس نيام، عرفت توقيت المغادرة ساعتها، فاختارت ملاقاة ملك الموت متجردة متبرأة من كل شيء إلَّا حب الحبيب مانح الندى قدرة ذكره، واهب المطر عبادته، وكاسي الأرض ضحك وبشر خضرته . رأت نفيسة العلوم «الحمد لله» كيف يكون.. وعلمت لما استهل به الكريم تمجيده: «فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة.. رسلًا.. أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع» فاختارت أن تكون «صائمة الدهر». حلو جميل التعبد داخل القبر.. رائحة التراب ليست مسكًا ولا ريحانًا، عبق الجنة يعرفه عباد الليل فقط، ويعيش عبقه من حفر قبره للعبادة، تعرف خطوات الأقدام طريق النزول وشاهدت الصعود، كم سحاب ظلل، كم ذر ذكر، كم نجم ذكر وافتخر. مطل عليها شاهدًا تقواها ومرددًا خلفها ، مستشعرًا فضلها ، شاكرًا بارئها على إنعامه بها. اشتد الشوق إلى لقاء ربها، لم يكن بالسيدة نفيسة سقمًا، أو سأمًا، أو حالة من العجز.. لم يزرها المرض، حين شرعت في حفر قبرها.. تهيأت إلى سحائب الرضوان، وإلى لقاء ربها كفاحًا، كل ليلة.. وتذكر الآخرة. . وطلبت «النوافل» من ابنة بيت النبوة تذكرها، فكانت «الركعات»، وشاركت «آيات القرآن الكريم» الأماني ورحبت أن تكون شاهدة على العبادة فكانت «الختمات» تلو الأخرى.. وقالت «العمائر» هنيئًا للقبر. قالت ابنة أخيها زينب بنت سيدى يحيى المتوج بالأنوار ابن الحسين بن زيد: «خدمت عمتي السيدة نفيسة أربعين سنة، فما رأيتها نامت بليل ولا أفطرت بنهار إلَّا العيدين، وأيام التشريق فسألتها: أترفقين بنفسك؟ فقالت: «كيف أرفق بنفسي وأمامي عقبات لا يقطعهن إلَّا الفائزون». عرفت السيدة نفيسة ما ميز أهل الذكر بسر سريان تجليات مواهب التوحيد، والاختصاص بالمقام الأعلى فى العوالم الروحانية.. بقيت «نفيسة المصريين» في مصر بأمر النبي.. نلنا الشرف.. نعم نحن المصريون أراد الله لنا الإكرام، ولك أن تعرف أنها تزوجت أيضًا بأمر النبي، من مثلها، وعن زواجها تحدث أهل الزمان.. التقى النوران الحسني والحسيني، «درة العلوم» من أحفاد الإمام الحسن، و«إسحاق المؤتمن» من أحفاد الإمام الحسين، ول«إسحاق المؤتمن» قصة وروايات يشرف القلم بسردها. راقب سيرة يتحدث صمتها، طالع مسيرة ونسك، عابدة نقية من البيت النبوي، اختارت السكون سمة والشبع بعبادة الله خارج ما ألفه البشر. يقترب كل من تهفو نفسه لتحقيق الأماني، ونيل المطالب، يزور السيدة نفيسة كل متطلع إلى منصب، تلحظ طوال العام أكابر القوم، يحني رأسه أمام المقام الشريف.. راغبًا. يحتار البسطاء والمفكرون في سر جذب السكون والوداعة والحنان الكبير والرضا، وهدوء النفس وزوال الهم و الإلهام، وغيرها من المرادفات إثر، زيارة «السيدة نفيسة».. أما زال صدى إخلاص تبتل عبادتها أى عبادة هذه.. وما حقيقة السمو والرقي ومشاهدة الذرات تتبتل بالتسبيح في سكون الليل.. هذه ساريًا عطية من الله، بعد كل هذه السنوات.. منحة لمودة آل بيت النبي. لسنا محل الإجابة عن بسط النعم من الخالق لعباده والراغبين وجهه.. يجيب عن هذا من زار.. يعرف من قضيت حاجته نعمة الزيارة وفضل الإجابة، ابحث في التاريخ ، واقرأ الكتب واعرف لي من ختم القرآن آلاف المرات في قبره غير «نفيسة العلوم».. تحت سماء ذهبية نقية راضية صفية، يشرق وجهها ليلًا جاء الاحتفال بمولد «السيدة نفيسة حبيبة المصريين».. بريق الملائكة، كان يسطع على وجوه الزائرين، الذين تحللوا من نفوسهم وأصبحوا هم «الراغبون». هيمن على الجميع شعور سماوي وارتجافة من هواء، ناثرًا حالة من الرضا، شفافة عبقها أثيريا.. كانت الرؤوس المتزاحمة لنيل شرف الزيارة والوقوف مواجهة للمقام الشريف أمام المقصورة النحاسية، تشبه سحبًا ملونة تنطلق دون مساس في أدب صوفي. كان من يدقق النظر، أو تغيب روحه في الرضا يلمح الأجنحة.. تلو الأخرى، كان كبح الإحساس بالبهاء مستحيلًا فها هو الرجاء يتحقق وتقترب الأقدام من باب المسجد، حيث يوم الحشر للانتقال إلى رحاب الزيارة.. الأرواح الداخلة كانت تقابل الخارجين ممن أشرق عليهم الربيع، وبعثوا من جديد بعيدًا عن البؤس.. بمقدورك أن ترى، ضحكهم العالى في سكون، ووجوهم المنحوتة بقوس قزح ممزوج بالصقيع، تغيرت في نغمة واحدة كاملة تفوق الوصف من اللون البرتقالي الوضاء، أهو لون الفرحة، أم الرضا.. حتى الأصوات التي احتكت قبل منفصلة، اندمجت في أذان واحد.. وذاب الشحوب وحل الإشراق.. ويتحبب إليك النظر إليهم وألسنتهم مازالت تبتهل، وتتنقل أقدامهم مرغمة مع انحناء الرؤوس خالية من الأمور الدنيوية.. والنغم وأنشودة الاستغفار والتوبة يسرى بعبق الكلمات في الشرايين المتقدة في نضج وابتهاج فرحة لقاء السيدة نفيسة.. وأشرقت الشموس داخل الرؤوس.. وملأ الجميع شعور الدفء السماوي على القلوب واستمر حديثهم لاهثًا نديًّا عن النعمة وأصدائها بأن الطلب من الله وإلى الله ابتداءً وانتهاءً.. السيدة نفيسة عرفت بألقاب يفتخر بها المداد منها.. «مشبعة الحروم».. «المحدثة المتبحرة».. «الراكعة الساجدة» .. «صاحبة الكرامات الوفيرة».. ولقبت ب«نفيسة الدارين» لعوارفها وتواضعها لبارئها وبرها وصلتها لذويها وقاصديها، واشتهرت ب«نفيسة العلم» لما استنبطته من دخائل وكشفته من غموض العلوم، فرجع إليها الناس في حل المعضلات والمشكلات، وعرفت ب«نفيسة العابدة».. «السائحة في طاعة الله وتقديسه» «الصالحة القانتة».. «المصلية الصائمة».. ودون كتاب التاريخ أنها «نفيسة المصريين» لإجلالهم وحبهم لها، حتى أنها يوم عزمت على الرحيل إلى بلاد الحجاز شق ذلك عليهم وسألوها الإقامة عندهم.. حجت السيدة نفيسة مرات كثيرة ماشية على قدميها، ونقل عنها أنها تعلقت بأستار الكعبة وقالت: «إلهي وسيّدي ومولاي، مَتِّعْني وفَرِّحْني برِضاك عنّي، فلا تُسبِّبْ لي سَبَبًا يَحجبُك عنّي».. ولدت السيدة نفيسة في مكةالمكرمة في الحادي عشر من ربيع الأول سنة 145 هجرية، والدها هو أبو محمد الحسن الأنور، ابن زيد الأبلج ابن الإمام الحسن سيد شباب أهل الجنة، ابن الإمام على بن أبي طالب كرم الله وجهه. عرف سيدي حسن الأنور بأنه عالم جليل، وكان مجاب الدعوة شريفًا، ومن كراماته، أنه كان يومًا في الأبطَح، فمرّت به امرأة معها ولدها، فاختطفه عُقاب، فسألت الحسنَ بن زيد أن يدعو اللهَ لها بردّهِ، فرفع يديه إلى السماء «ودعا ربَّه»، فإذا بالعُقاب قد ألقى الصغير مِن غير أن يضرّه شيء.. أمّا أمّها فأمّ ولد، وأمّا إخوتها فأمّهم أمُّ سَلَمة زينب بنت الحسن المثنّى ابن الإمام الحسن ابن الإمام عليّ. نشأت السيدة نفيسة بمكةالمكرمة ثم استصحبها أبوها وهي في الخامسة من عمرها إلى المدينةالمنورة، علّمها «الأنور» ما تحتاج إليه من أمور دينها ودنياها. ثمّ تلقّت الحديث والفقه. تقدم إليها إسحاق المؤتمَن، فلم يُعطِه أبوها جوابًا، فقام إسحاق ووقف تجاه قبر النبيّ، صلّى الله عليه وآله، بخشوعٍ وإجلال يخاطبه: يا رسول الله، إنّي خطبتُ نفيسة بنت الحسن من أبيها فلم يَرُدّ علَيّ جوابًا، وإنّي لم أخطبها إلَّا لخيرها ودينها وعبادتها. وفي تلك الليلة ذاتها رأى أبوها جَدَّه المصطفى، صلّى الله عليه وآله، في رؤيا صالحة وهو يقول له: «يا حَسَن، زوِّجْ نفيسة مِن إسحاق المؤتمن»، فما أفاق حتّى بعث إلى المؤتمن يستدعيه إليه، فسارع إليه، وعُقِد له في جمعٍ من ذراري بيت رسول الله، وكان ذلك سنة 161 هجريّة.. مدح السيدة نفيسة كثير من المحبين والعارفين منهم.. شرف الدين محمّد بن سعيد البُوصيريّ صاحب البُردة والهمزيّة، في قصيدةٍ طويلة اخترنا منها هذه الأبيات: سليلةَ خير العالمينَ «نفيسةٌ» سَمَت بكِ أعراقٌ وطابت مَحاتِدُ إذا جُحِدَت شمسُ النهارِ ضياءها ففضلُكِ لم يَجحَدْه في الناسِ جاحدُ بآبائِكِ الأطهارِ زُيِّنَتِ العُلى ففضلُكما لولا النبوّةُ واحدُ معارفُ ما تَنفكّ.. يقضي بسرِّها إلى ماجدٍ مِن آلِ أحمدَ ماجدُ يُضيءُ مُحيّاهُ كأنّ سَناءهُ إلى الصبحِ سارٍ أو إلى النجمِ صاعدُ إذا ما مضى مِنهم إمامُ هُدىً أتى إمامُ هُدىً يدعو إلى اللهِ راشدُ تَبلَّجَ مِن نورِ النبوّةِ وجهُهُ فمِنه عليهِ للعُيونِ شواهدُ وفاضَت بحارُ العلمِ مِن قَطْرِ سُحبِها عليهِ.. فطابَت للرَّواءِ المَوارِدُ فقُلْ لبني الزهراءِ والقولُ قُربةٌ لكلِّ لسانٍ فيهمُ أو حصائدُ: أحَبَّكُمُ قلبي، فأصبح منطقي يجادلُ عنكم حَسْبةً ويَجالِدُ وهل حبُّكُم للناسِ إلاّ عقيدةٌ على أُسِّها في اللهِ تُبنى القواعدُ؟! وإنّ اعتقاداً خالياً مِن محبّةٍ ووُدِّ لكم آلَ النبيِّ لَفاسدُ للسيدة نفيسة كرامات لا تعد في حياتها، وبعد وفاتها، ذكر منها ابن حجر أكثر من مائة وخمسين كرامة، لا على سبيل الحصر بل على سبيل المثال، واتسعت أمهات الكتب بالروايات الموثقة، منها قال السخاويّ: لم يزل الصالحون والأئمّة والفقهاء والقرّاء والمحدّثون والعلماء يزورون مشهد السيّدة نفيسة، رضي الله عنها، ويَدْعُون عنده، وهو مجرّب بإجابة الدعاء.. قال عبد الوهاب الشعرانيّ الحنفي صاحب «الطبقات الكبرى»: دخلتُ أنا إلى قبر السيّدة نفيسة مرّة، فوقفت على باب مشهدها الأوّل أدبًا، ودخل أصحابي إلى قبرها، فلمّا نِمتُ جاءتني وعلى رأسها مِئْزرُ صوف أبيض، وقالت لي: أنا نفيسة، فإذا جئتَ للزيارة فادخل إلى قبري، فقد أذِنت لك.. فمِن ذلك اليوم وأنا أدخل لزيارتها، وأجلس تجاه وجهها.. وقال الشعرانيّ أيضًا: رأيت في كلام الشيخ أبي المواهب الشاذلي أنّه رأى النبيَّ، صلّى الله عليه وآله، فقال له: يا محمّد، إذا كان لك إلى الله تعالى حاجة، فانذُرْ لنفيسة الطاهرة ولو بدرهم، يَقْضِ الله تعالى حاجتك. وكان الشافعيّ إذا مَرِض يرسل إليها رسولًا مِن قِبَلهِ، كالربيع الجيزي أو الربيع المرادي، أو غيرهما من أصحابه، فيُقرئها سلامَه ويقول لها: إنّ ابن عمّك الشافعي مريضٌ ويسألكِ الدعاء، فتدعو له. فلا يرجع إليه رسوله إلَّا وقد عُوفي من مرضه. عن سعيد بن الحسن قال: توقّف النيل بمصر في زمن السيّدة نفيسة رضي الله عنها، فجاءها الناس وسألوها الدعاء، فأعطَتْهم قِناعها، فجاؤوا به إلى النهر وطرحوه فيه، فما رجعوا حتّى زَخَر النيل بمائه. وذكر المقريزيّ في خططه: وقبر السيّدة نفيسة رضي الله عنها أحد المواضع المعروفة بإجابة الدعاء بمصر. قال القضاعي، وهو من علماء الشافعيّة: قلت لزينب ابنة أخيها: ما كان قُوت عمّتِك؟ فقالت: كانت تأكل في كلّ ثلاثة أيّام أكلة، وكانت لها سلّة أمام مُصلاّها، فكلّما طلبت شيئًا وجَدَتْه في تلك السلّة، وكانت لا تأخذ شيئًا إلَّا من زوجها أو ما يَحبُوها به ربُّه.. قال بعض الصالحين: إنّ الله تعالى وكّل بقبرها مَلَكًا يقضي حاجات الناس، رضي الله عنها.