هالني ما قرأت من رسائل بعث بها طارق عبد الجابر للجنرال عبد الفتاح السيسي, طارق عبد الجابر الذي لا يذكره الكثيرون، اللهم إلا من كانوا يتابعون أخبار التاسعة في حقبة التسعينات, فقد كان الرجل مراسل التليفزيون المصري في الأرض المحتلة.. انتهت حقبة مراسلي التليفزيون ومراسلي الجرائد الحكومية, وانتهت حقبة الإعلام الحكومي كمصدر للمعلومة أو للخبر , وانتهى دور طارق عبد الجابر وزملائه.. وفي إحدي لحظات الأزمة اختار عبد الجابر أن ينحاز إلي أحد طرفيها, وهو الطرف المهزوم, غير أنه لم يحمل سلاحا ولا حزاما ناسفا, إنما عمل كإعلامي في قناة معادية للوطن. وتشاء الأقدار أن يُصاب – كما يقول- بمرضٍ عُضال يدفعه للتفكير في العودة لوطنه ليموت فيه بين أهله ويدفن في أرضه.. لكنها أرض محرمة بحسب سدنتها وملاكها الجدد, هي الآن الأرض المباركة وهو الآن في التيه, وهو يعلم أن الأمور في الأرض المباركة لا تسري كما تسري في غيرها, فلا قضاءٌ ولا تقاضي, ولا حقٌ معصوم إلا بمباركة الرب الجديد, فانقلب عبد الجابر علي ما آمن به – أيا كان صحة معتقده- وانسحق أمام الملك الجديد لعلمه أنه مُنزل الرحمات وقابل التوبات، دعك من تقييمك لصحة موقف عبد الجابر سابقا, فقط تذكر أن ما فكر فيه كان رأيا, فهو حسب ما نعلم لم يحمل سلاحا أو يقتل أحدا, ولا سبيل لمعرفة إن كان حدث عكس ذلك, ففي الأرض المباركة لا تحقيقات تتحرى ولا قضاء ينصف, إنما نمرودٌ يدّعي أنه يحيي ويميت, وهذا ليس زمن المعجزات كي يخرج إبراهيم الخليل ليبهته. علم عبد الجابر ما عليه فعله كي يدخل الأرض المباركة, ابتداء، أن يعترف بأنه سار في ركب المغضوب عليهم, وهي خطيئة لا يٌكفَّر عنها إلا بدخول الباب ساجدا وقول تحيا مصر ثلاثا, عليه أن ينسحق, لكنه فيما يبدو لم ينسحق بما يكفي! وكما فعل عبد الجابر فعل كبار الرتب من المثقفين.. ففي زمن توزيع الرتب والعطايا من الملك, تأذّت بيروقراطية الثقافة من تجاهل الملك لها, فصارت أعمدة رأيهم مماحكات, وصارت تصريحاتهم كشحاتة الاهتمام, هم فقط يرغبون في اعتراف الملك بوجودهم, حتي واتتهم الفرصة واستدعاهم الملك إلي حضرته وقدم لهم الشاي الفاخر في الأواني الملكية, حتى وإن لم يخف الملك احتقاره لهم طيلة اجتماعه بهم, وحتى إن كان جل ما قاله لهم لا يصب إلا في الحط من شأنهم, لكن لا بأس فما دامت هناك حظوة فلها تكلفة, وهم تكبدوا عناء ومشقة, ولن يثنيهم عن عزمهم المضي فيما يريدون مذلةٌ أو دنيةٌ يرضونها, فما يحدث في الخفاء لا يعلمه العامة, أو هكذا يظنون! ولا بأس من أمر يسير يعلنونه للعامة من على الأعتاب المباركة كي يشعر الرعاع بحظوتهم وقربهم من الملك, فظهر أحدهم بعطية الرب لرعاياه, لقد استجاب الرب لدعائهم وعفا عن الطفل الذي فكّر في وطن بلا تعذيب أخيرا بعد أعوامٍ شبّ فيها الطفل خلف القضبان.. لكن فرحة المحظيين وفرحة أشياعهم من العامة لم تكتمل, فقد تراجعت الأعتاب المقدسة عن العفو, والطفل الذي صار شابا في السجون قد يصير كهلا بلا محاكمة.. لا أدري من منهما لم ينسحق بما يكفي, أهم المثقفون الأسري؟ أم الطفل الحر؟! ولأنها أرضٌ مباركة تحكمها أعتابٌ مباركة فهي مُحرمة مدي الحياة علي الضالين الذين لم ينسحقوا بما يكفي, فهؤلاء الفارون لا مكان لهم في جنة عدن, فلن تطأ قدما عاطف بطرس مصر بعد اليوم, وسيظل هائما في صحراء التيه في جرمانيا, ولن يرى الفارون كباسم يوسف وبلال فضل ومحمد أبو الغيط، ذويهم طالما كانت هناك أرض مباركة وطالما كانت هناك أعتاب مباركة, وستظل السجون ملاذا لمن لا أرض يفر إليها, وهي سجون تعمل بعُرف الملك, فإن رأى أن يُسجن أحدهم حتي حين, فهو ذلك إذن, وإن رأى أن يُسجن أحدهم أبدا, فهو الملك وتلك سجونه ! وكي تدخل في دين الملك يجب أن تنسحق, عليك أن تدرك أن جنة الملك هي جنة الله في أرضه حتي وإن بدت خربة, وعليك أن تعلم أنها تثير غيرة الأمم وحقدها حتى إن كان العالم ينأى بنفسه عنها ويعمل جاهدا علي تفادي التعامل مع من يحكمها أو مع من يسكنها, وعليك أن تدرك أنها في رقي وازدهار حتي إن كانت الأرقام تقول عكس ذلك, وعليك أن تعلم أن الكفتة دواءٌ لكل داء حتى السام, وإن لم تداو بها كبد أخيك, فعليك أن تؤمن أنه قد صدق اللواء وكذب كبد أخيك, غير أن انسحاقك ليس من تقديرك, فقد ترى انسحاقك كفيلا بدخولك دين الملك, لكن قد يرى الملك دون ذلك, عندها عليك أن تفكر فيما هو أكثر أو أن تنتظر حتي يرى الملك .!