"عندما نختار الضعفاء مراهنين علي انقيادهم لنا نقع في خطأ كبير اذ ننسي أنهم كما ينقادون لنا ينقادون لغيرنا " الزعيم الباكستاني ذو الفقار علي بوتو من سجنه بعد أن انقلب عليه وزير دفاعه" ضياء الحق ".. ثم أعدمه لاحقا ... بدأ أنور السادات حكمه وهو لايصدق نفسه , جلس حيث لم يحلم طوال عمره أن يجلس , كان الأضعف بين رجال عبد الناصر , وكان دائم الاحتماء برجل قوي , كان عبد الناصر وكان أحيانا عبد الحكيم عامر , وفي المناقشات عموما كان لايبدي رأيا وانما ينتظر صامتا ثم يعقب علي كلام عبد الناصر أو عبد الحكيم عامر قائلا " صح " وراح بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة يسخرون منه وينادونه بالأخ " صح " .. ودارت الأيام وطويت صفحة الأقوياء , وبين عشية وضحاها صار الأخ " صح " رئيسا لجمهورية مصر وجلس علي كرسي رمسيس الثاني وعمرو بن العاص وجمال عبد الناصر .. كان السادات يدرك أنه يستمد شرعيته من وجوده في ركاب عبد الناصر حتي رحيله ولا شيء آخر , فليس صحيحا أنه كان صاحب نضال قبل الثورة , بل الصحيح والمستقر تاريخيا وما لا خلاف عليه أنه كان جزءا من تنظيم الحرس الحديدي الذي أنشأه الدكتور يوسف رشاد لتصفية خصوم الملك فاروق جسديا , وشارك السادات في محاولة قتل النحاس باشا , وكان الملك فاروق يعرف اسمه ضمن تنظيم الحرس الحديدي وهو ماجعله يشعر بالذهول ويعبر عن دهشته لما علم أنه ضمن تنظيم الضباط الأحرار بعد قيام الثورة ولسان حاله يقول " ماجاء بالشامي علي المغربي " ! في سنوات حكمه الأولي كان السادات مرتجفا لايعرف هل جادت عليه السماء بهدية عمره أم نزلت عليه الأقدار بمطرقة تهوي علي رأسه , كان من جهة لايريد أن يحارب , وقد أفضي لعبد القادر حاتم بمافي دخيلة نفسه , قال له لقد أخطأ عبد الناصر لأنه لم يسلم بالهزيمة ويقبل حل المهزوم وينتهي الأمر , ولما أفضي حاتم لغيره بقول السادات عبر الأخير عن ضيقه وقال انه كان يظن أن حاتم يصلح لرئاسة الوزارة ولكنه الآن عرف حدود امكانياته ! أفرط السادات في التضاؤل واستدعي روح الممثل الكامنة في أعماقه , وقد كتب هو في كتابه " البحث عن الذات " أنه لايجد نفسه الا بين الممثلين .. قالها بالنص , و تكلم عن محاولته أن يكون ممثلا في فيلم يسمي " تيتا ونج " وأرسل صوره الي المنتجة وقابل هناك من اختبره ثم صرفه أو " زحوله " علي حد تعبير السادات ! . ظل السادات يستجدي عطف المصريين بمناسبة وبلا مناسبة , ويقدم نفسه لهم من خلال عبد الناصر , وراح يفرط في الحديث عن عبد الناصر افراطا جاوز الحد المحتمل أحيانا , من ذلك أنه انحني أمام تمثال نصفي لعبد الناصر مما أثار انزعاج من شاهدوا الموقف! أذكر أن رجلا من قريتي كان ينصت لخطاب السادات وهو يتكلم عن عبد الناصر الذي حمل حملا تنوء بحمله الجبال وأنه لا يقدر وحده عليه ثم راح يستعرض أفضال عبد الناصر علي الثورة وكيف أن جميع أعضاء مجلس قيادة الثورة صوتوا علي اعدام الملك فاروق ومنهم السادات , وأن الوحيد الذي رفض سفك دم فاروق كان عبد الناصر , وأن التصويت أعيد والكل مصمم علي قتل الملك الا عبد الناصر وأن الجميع عدلوا عن رأيهم أمام تهديد عبد الناصر بالاستقالة ! وخلال الحديث تأثر الرجل الطيب ونظر الي وقال وصوته يتهدج تأثرا لحال السادات " الرجل يقول لا أقدر علي المسئولية وحدي.. ربنا يعينه ". كان السادات خلال حكم عبد الناصر قد كتب طويلا عن زعيم الثورة والف كتابا تحت عنوان " ياولدي هذا عمك جمال " ولاحقا تم سحب الكتاب تماما لأن ماحواه كان يكذب التاريخ الذي يعيد السادات صياغته علي هواه. دخلت مصر حرب أكتوبر المجيده التي وضع خطتها عبد الناصر , و كان للسادات الفضل في اتخاذ القرار , ولكن هذا الفضل لابد أن يذكر مع كم من المصائب والنكبات التي تلت الحرب وتلك التي وقعت من السادات خلالها , ومن أشهرها ما أفضي به الي كيسنجر عن نواياه عدم توسيع دائرة الحرب بينما كانت لاتزال مشتعلة والعالم مأخوذ ببطولات المصريين , وهو مابدا عجيبا حتي لكيسنجر نفسه وهو اليهودي الذي كان ولاؤه الأول لا لأمريكا بل لاسرائيل ! بعد أكتوبر اكتسب السادات شرعيته الجديدة , لم يعد من " رضي عنه عبد الناصر " كما دأب علي تقديم نفسه , بل صار بطل أكتوبر , وهنا تغيرت الصورة كلها من الفها الي يائها في موقفه من عبد الناصر ! فجأة وبلا تمهيد , اكفهر الأفق وتلبدت السماء بالغيوم وراح الناس يسمعون أصوات الرعد والبرق من كل صوب وحدب, خفتت أصوات المدافع عن اسرائيل بفك الارتباط معها وبدأت المدفعية الثقيلة في دك حصون عبد الناصر وتجربة عبد الناصر وزمن عبد الناصر ! استدعي الفارون من " جحيم عبد الناصر " ممن كانوا خارج مصر أمثال المرحوم أحمد أبو الفتح سليل عائلة أبو الفتح ملاك جريدة " المصري " وعلي أمين الصحفي المعروف وأفرج السادات عن شقيقه مصطفي أمين , وكان قد رفض كل الوساطات للافراج عنه وصرخ في وجه بعض من توسطوا في وقت سابق قائلا " كيف أفرج عن جاسوس "! , واكتملت الدائرة الجهنمية بمجموعة من أصحاب المصالح الجدد ممن التفوا حول السادات أمثال المقاول عثمان أحمد عثمان , وكان هناك الخصوم التقليدون أو بالأحري الأعداء التقليديون للزعيم الراحل وأبرزهم جماعة الاخوان المسلمون ! وتباري كتاب من أمثال موسي صبري للهجوم علي الرجل واهالة التراب علي تاريخه ! ودقت طبول الحرب .... فجأة أصبح عبد الناصر علي لسان السادات نفسه " رجل عصبي المزاج دائم التوتر لايثق بأحد مملوء بالمرارة دائما " وأن الفارق بين السادات وبين عبد الناصر هو الفارق بين دكتاتورية عبد الناصر وديموقراطية السادات ! كانت تلك وغيرها اشارة البدء لحرب ضروس لازالت تلاحق تاريخ عبد الناصر , وهي حرب تغذيها أصابع امبريالية تحرص علي الا يخرج من بين أبناء الأمة العربية مرة أخري من يكرر تجربة عبد الناصر مع الغرب باعتبار أن تاريخنا عند الغرب يبدأ بالتبعية للروم والفرس وينتهي بالتبعية للأمريكان مرورا بكل الامبراطوريات الغاربة شمسها من الأسبانية الي الهولندية الي الفرنسية والانجليزية , فالعربي لايكون الا تابعا , وطنه مستباح وثرواته تعرف طريقها الي خارج الوطن ! كما تغذيها أطراف اقليمية عاشت علي أعصابها زمن صعود أسهم عبد الناصر وتنفست الصعداء برحيله ! قيل للناس لقد عشتم في وهم عظيم , والآن جاء وقت كشف ماعشتم فيه من الزيف , هناك من يعلمون أكثر مما تعلمون وسوف تعرفون أي وهم أسود خدرتم فيه سنوات تحت قيادة من سحركم وغيب وعيكم ! وفي الحقيقة كانت تلك أكبر حرب لتزييف وعي العرب جميعا وقد آتت ثمارها المرة ولا زال حصاد الثمار قائما .. من علي رصيف محطة مصر للسكك الحديدية اشتريت كتابا لمصطفي أمين عنوانه " سنة أولي سجن " كنت مجندا وقتها بالقوات المسلحة , قرأت الكتاب مرارا , كان يتحدث عن صنوف التعذيب البشع الرهيب والمروع الذي تعرض له مصطفي أمين في سجنه , كنت مع كل سطر أرتجف هولا , قبل قراءة الكتاب كنت أعاني من جفاف الحياة في معسكر حربي , ومع قراءته شعرت أنني أحيا في جنة عدن عندما قارنت حياتي في المعسكر مع ما حكاه الكاتب عن صلبه وتعليقه ورأسه الي أسفل كالذبيحة والدم يسيل من جسده , وكيف تشفي فيه "محمد حسنين هيكل " وراح للسجن لزيارته ليمتع نظره برؤية " ولي نعمته " السابق وأستاذه مصلوبا يسيل الدم من جسده وهو من هيأ لهيكل أن يكون صحفيا معروفا وأن هيكل هو من أوقع به حتي ينفرد بعبد الناصر وأن صلاح نصر كان يرتعب خشية أن يعين عبد الناصر مصطفي أمين رئيسا لجهاز المخابرات بدلا منه لاعجاب عبد الناصر بقدرات مصطفي أمين الخارقة في عالم المخابرات, ثم كتب مصطفي أمين رواية مسلسلة بعنوان " لا " وهي تحكي عن قصة رجل عارض في زمن عبد الناصر ولقي من الهوان ما تهون الي جانبه نار جهنم , ثم كتب مصطفي أمين كتابه " سنة ثانية سجن " والمفروض أن الكتاب رسائل مرسلة منه الي أخيه علي أمين الذي كان يعيش في لندن في معية أحد الأثرياء الخليجيين ممن لهم باع في عالم المخابرات ! كنت في عمر يسهل فيه خداعي , ولم يكن هناك مايدعوني لعدم تصديق ما قرأت برغم أنه لم يكن يخفي علي أحد مهما تدني حظه من الفهم أن السادات يقف وراء الحملة مباركا وداعما .. كتب أنيس منصور في نفس السياق عن " عبد الناصر المفتري عليه والمفتري علينا " وسبق توفيق الحكيم فكتب " عودة الوعي "و كان كتيبا صغيرا, قرأته مندهشا غير مصدق أن قامة بحجم توفيق الحكيم قد اعترف أنه عاش مضللا طوال زمن عبد الناصر شبه مسحور وأن الأوان حان لاستعادة الوعي مجددا بعد غيبوبة الوهم الطويل ! وكان ذلك ضمن دواعي " سحبي " لدائرة تصديق أن ما يقال هو جديد يستوجب اعادة النظر في قصة عبد الناصر كلها ! بعد ذلك علمت أن " بنك القلق " لتوفيق الحكيم قد نشرت بأوامر من عبد الناصر شخصيا وكانت تهاجم عهده هجوما شديدا , كما علمت أن رواية " ثرثرة فوق النيل " لنجيب محفوظ قد نشرت بأوامر من عبد الناصر وهي تسير في نفس الاتجاه , فلا كان الوعي غائبا اذن ولاعاد من غيبوبته ! وكتب السادات نفسه لاحقا كتابه التافه " البحث عن الذات " وفيه أطلق العنان لخياله فأنكر وأدعي علي قول كامل الشناوي , وكان مما ادعاه أنه مؤسس تنظيم الضباط الأحرار وأنه عين نائبه " عبد المنعم عبد الرؤوف " غير أن دخوله السجن لنضاله لتحرير مصر ( وليس للقتل ضمن الحرس الحديدي لقاء أجر ومنه ماتقاضاه أيام زواجه من السيدة جيهان من مال ) وادعي أن عبد الناصر سرق منه قيادة التنظيم مستغلا غيابه داخل أسوار السجون ! لم يعد عبد الناصر أحد قادة التحرر الوطني في العالم , ولا عاد أحد حباة العقد الذهبي الذي يضم قامات زمانه من نهرو الي ازينهاور الي ديجول الي ونستون تشرشل وتيتو , بل صار عبد الناصر هو مزيج من الرجل الحقود علي " أولاد الناس " بسبب فقر عائلته , والمعقد نفسيا من الأثرياء لطول حرمانه , والمتعالي حتي علي أبيه و الرافض مرات أن يقابله في مكتبه , وهو الدكتاتور المتأله المتغطرس الذي لايسمع الا صوته , هادم ديموقراطية ما قبل انقلابه الأسود والذي سجن محمد نجيب لأن نجيب من دعاة الديموقراطية , وهو الطامح الي زعامات شخصية جرت مصر الي الخراب من حرب اليمن الي عداوة فرنسا لموقفه من تحرر الجزائر , وهو الطائش المندفع , وفي السياق نفسه أنتج فيلم أمريكي يصور عبد الناصر في صورة الطائش المندفع بينما الي جواره رجل بالغ الحكمة هو السادت الذي يمسك بجهاز " الريموت " للتحكم في اندفاعات عبد الناصر فكان كلما هم بشطط نبهه السادات فكف عن شططه !!! لم يعد عبد الناصر من بني السد العالي ولا المصانع ولا المدارس ولا المستشفيات ولا من كانت نسبة النمو في عهده نحو تسعة في المائة سنويا وهي أعلي معدلات النمو في العالم , ولم يعد هو من أمم قناة السويس وردها لأحضان الوطن بعد أن كانت دولة داخل الدولة , بل صار ذلك الرجل الدموي المندفع المتأله , صار أبرز ماينسب اليه أنه " عبد الناصر بتاع التعذيب والاعتقالات " وأنه خرب مصر وجرها الي الديون! لم يعش عبد الناصر لأجل وطنه وأمته العربية , ولاعاش لأجل تحرير المستضعفين وانصاف الفقراء والمحرومين بل وهب حياته لتعذيب المعتقلين , وكتبت احدي السيدات أن عبد الناصر كان يذهب اليها في سجنها ليمتع ناظريه بمنظرها وهي تعذب , وكان يرتدي نظارة شمسية !! وعبد الناصر هو من الف وأخرج ومثل " تمثيلية المنشية " بحيث تكون فرصته للانقضاض علي الاخوان المسلمين الأبرياء, يقول هذا قائل منهم ويحشد الف دليل لاثبات أنها تمثيلية ثم بعد حين يعود فيقر هو نفسه معتذرا بأنه تحقق لاحقا أن الاخوان حاولوا قتل الرجل , ومع هذا فان مقولة " تمثيلية المنشية " صارت جزءا من التراث المعصوم من التشكيك في أدبيات جماعة الاخوان , فلايكتمل انتماء المرء الي جماعة الاخوان مالم يبايع علي السمع والطاعة وعلي التسليم بأن ماجري في المنشية كان تمثيلية من تأليف و اخراج وتمثيل الممثل العالمي الراحل جمال عبد الناصر .. وشطت الدعاية في اتجاهات من قبيل الكوميديا السوداء علي شاكلة أن المرأة الجميلة كانت ترتعب من السير في الشارع وحدها دون حراسة قوية من رجال أشداء من أهلها لأن رجال عبد الناصر كانوا يترصدون الجميلات لخطفهن !! ومن المضحك المبكي حقا أن بعض من يشهرون بعبد الناصر المعادي لأولاد الناس هم من أبناء الفقراء ( وليس ذنبهم ) ولولا عبد الناصر لعاش هؤلاء معدمين وماتوا معدمين ! وأستأذن القاري الكريم في ملاحظة ووقفة , فأما الملاحظة فهي أنني ضد اهدار كرامة الانسان مهما كانت الذرائع ولكني بذات القدر ضد الكذب والكذابين والمفترين وضد التهويل والتشويه المغرض , وأما الوقفة فهي أنني كنت مستشارا في محكمة استئناف القاهرة يوما , وكنت أنظر التعويض عن التعذيب في السجون في كل زمان مضي باعتبار أن التعذيب جريمة لاتسقط بمرور الوقت ولا تسقط دعوي التعويض عنها , وكانت أمامي قضية أحقق فيها وأستمع لأقوال الشهود عن تعذيب مجموعة هائلة من احدي القري زمن عبد الناصر , كانت صحف الدعاوي كلها متقاربة في الخطوط العامة في وصف التعذيب الدموي والوحشي , وكيف علق المعذب كالذبيحة وضرب بالسياط حتي قطع جلده وتناثر وهكذا , كانت صورة يقشعر لها البدن حقا , وفي يوم وخلال التحقيق دخل الي حاجب المحكمة ليقول ان جماعة من وجهاء تلك القرية يريدون مقابلتي , قلت له أخبرهم ليكتبوا ماشاءوا ثم هاته الي , فلم يكونوا خصوما في الدعوي , عاد الرجل ليقول انهم مصممون علي لقائي , وقرب انصرافي من المحكمة اكتشفت أنهم لازالوا واقفين أمام الباب , قلت للرجل أدخل الناس , ودخل مجموعة من الرجال , كانت عليهم علامات المهابة, وفور جلوسهم القوا الي قنبلة , تكلم أحدهم مؤيدا من الكل , قال لي : أعرف أننا لسنا طرفا في القضية , لكننا نتلمس طريقا للتدخل فيها , وبالنص قال " وشنا اتاكل " وراح يرددها , وأضاف , عندكم في المحكمة مئات قالوا انهم عذوا في الستينات ويطلبون التعويض وهم من أهل قريتنا .. ثم أخرج من حقيبة كما هائلا من الأوراق , قال هذه شهادة ميلاد فلان .. هو من مواليد عام الف وتسعمائة وثمانية وستين فكيف عذب عام الف وتسمعمائة وستة وستين ولم يكن ولد بعد , وهذه شهادة زواج أم فلان من أبيه , انها في عام ستة وستين كانت لم تتزوج أباه بعد , فكيف كان يعذب ابنهما قبل زواج أبيه من أمه !!!!!!!! فيما بعد تكلم صلاح نصر عن روايات وحواديت مصطفي أمين وطلب منه أن يطلب اعادة محاكمته عن تهمة الجاسوسية وصمت مصطفي أمين صمت القبور ولم يرد , ولما كتب " هيكل " كتابه" بين السياسة والصحافة" وأورد قصة مصطفي أمين كاملة بما فيها أوراق الاعترافات بخط يد مصطفي أمين وبما فيها أن ضباط السجن كانوا يخافونه ومنها أن ملامح تحسن بادي علي صحته كانت محل ملاحظته هو نفسه , ومنها ماكان يحمل له من أطايب الطعام من أفخم المطاعم وبعض طلباته كانت تأتي من لبنان بيد الأستاذ سعيد فريحة الصحفي اللبناني المعروف , وكانت تدخل كلها السجن بموافقة عبد الناصر ... عندها توقعت أن يكذب مصطفي أمين ماجاء في الكتاب جملة وتفصيلا لكنه لم يكذب منه حرفا واحدا !! لا أنكر ولا ينكر أحد أنه هناك من عذبوا في زمن الملك رميسي الثاني وفي عصر بناة الأهرام وماقبله والي عصر المخلوع , ولايمكن لقاض مثلي أن يدافع عن اهدار آدمية انسان مهما كانت الذرائع ولكني مع التدقيق المنصف وليس الصراخ الفارغ بالحق وبالباطل ! لابد من وضع كل أمر في اطاره التاريخي , فمحمد علي باشا قتل الظالم والمظلوم من المماليك , ولايمكن أن تختزل سيرة محمد علي في أنه " بتاع مذبحة القلعة " ..لابد من التدقيق وبيان الرشد من الغي في القضية , خاصة أن سيل الأكاذيب صار استخفافا بالعقول واستهانة وامتهانا , ومن أشد مايؤسف له أن جيلا كاملا من المصريين تعرض لتشويه الوعي علي نحو فادح , وصارت ترهات موسي صبري وحواديت أمنا الغولة علي لسان مصطفي أمين جزءا من الوعي العام بعد تضليله ! وطالت قائمة الاتهامات ذمة عبد الناصر المالية , لفق المقاول عثمان أحمد عثمان في كتابه التافه " تجربتي " صورة طريفة لعبد الناصر وهو يسلم علي عثمان ورأسه منخفض , وكتب تحت الصورة كلمات قريبة المعني عن " النظام الراحل وقد أحني وجهه لعرق عمال مصر في بناء السد العالي " ثم اتهمه في ذمته وتحدث عن خرابها , واتسعت الحكاية وانتقل الغضب الي أطراف دولية واقليمية رأت أن السادات تجاوز الحد فيما يقال – بضوئه الأخضر - عن زعيم بقامة عبد الناصر وغضبت أطراف ماحسب السادات ومن خلفه الجوقة أن يغضبوا , وشكلت لجنة فحصت ثم كذبت كل حرف نطق به عثمان أحمد عثمان بحق الرجل العظيم زورا وبهتانا ... هل بقي لي عند القاريء الكريم فسحة لأتكلم عن عبد الناصر الذي عشت زمنه ؟ وأعتذر اذ أورد أمورا أو قصصا كنت طرفا فيها لأنني أحكي حكاية شاهد عيان . كان الحفاء في الريف المصري كله دون استثاء أمرا شائعا , كان ذلك قبل أن تثمر ثورة عبد الناصر في اقامة نوع من العدالة الاجتماعية , وكان من المشاهد المألوفة في طابور الصباح أن غالبية تلاميذ المدارس الابتدائية في الريف حفاة الأقدام يقفون علي أرض طينية ثم يدخلون الي الفصول في عز البرد يرتجفون لوضع أقدامهم علي بلاط صاعق بفعل البرودة أيام الشتاء في عز الزمهرير , وكان الكثير من الرجال والنساء في القري يسيرون حفاة الأقدام ! في مسلسل الملك فاروق التقت الكاتبة رجالا من العصر الملكي وأطلق بعضهم لخياله العنان ليصور حياة المصريين جنة قبل الثورة , ولم أعش زمن ماقبل الثورة ولكني عشت زمن مابعدها ورأيت بقايا العصر الملكي الكريم بؤسا متجسدا ساكنا متوطنا ! فهل أضيف شيئا ؟ لقد كان الطفل لما يقع علي الأرض تنكشف عورته أيضا لأن الغالبية الساحقة من الأطفال كانوا يذهبون الي المدرسة ويعيشون حياتهم بجلباب خارجي دون ملابس داخلية ... كانت تلك بقايا جنة" أفندينا " الملك فاروق ! هل أذكر المتباكين عن جنة " مولانا " الديموقراطية أن مولانا قد تلقي رشوة من " عبود باشا " لاقالة وزارة نجيب الهلالي التي طالبت المليونير بالضرائب فاختصر الطريق الي رشوة مولانا عن طريق سكرتيره الصحفي " كريم ثابت " , فأي ديموقراطية تلك التي جعلت نصف أهل الوطن حفاة تفتك بهم الأمراض مع الفقر والجهل ؟ من المعروف أنه بتتالي مرور الأيام وتعاقب السنين لايبقي بالذاكرة الا ماهو عظيم الأثر في النفس , وأقول للمتباكين علي جنة أفندينا انني الي اليوم وبعد مرور كل تلك السنين لا أزلت أذكر شعوري الطفولي بسعادة غامرة وزهو بالغ لأنني كنت ضمن القلة التي تنتعل حذاء بين تلاميذ فصلي ! كان التعليم زمن عبد الناصر مجانا, مررت بالمرحلة الثانوية دون أن أتردد علي مدرس لدرس خصوصي ودخلت حقوق القاهرة بمجموع زائد عن المطلوب للالتحاق بالكلية العتيدة بعشرين في المائة بالتمام والكمال بشرح أساتذتي وجهدي .. لقي عبد الناصر وجه ربه ومصر مدينة بمليار دولار هي مابقي من ديون بناء السد العالي والمصانع العديدة وأهمها مجمع الحديد والصلب وثمن مشتريات السلاح , وعند موت السادات كان الرقم قد تضاعف أربعين مرة دون أن نبني شيئا , وبعد السادات جاء مبارك ليبيع مابناه عبد الناصر ومن سبق عبد الناصر في البناء بينما يطلق الأفاقون علي عصر مبارك " عصر الرخاء " !!! من أراد أن يعرف حقيقة الواقع المصري قبل وبعد عبد الناصر فليلجأ الي الكتب والدراسات المحايدة , فان كان مصمما علي تملس التاريخ من خلال الأعمال الدرامية فلا يلتمس الحقيقة في مسلسل" الملك فاروق " بل في فيلم " القاهرة 30 " !!! Comment *