متوقعاً كالموت ومفاجئاً مثله، كان قرار موسكو بسحب الجزء الرئيسي من قواتها العاملة في حملتها العسكرية في سوريا أمس، القرار المفاجئ للجميع باستثناء واشنطن لم يكن يتعلق بمبدأ إنهاء العملية العسكرية الروسية وهو ما كان متوقع ومُصرح به منذ بدايتها –وإن لم يعلن موعده على وجه الدقة- ولكن في توقيته وخلفياته وطريقة إعلانه. والتي في الصورة الكاملة غير جديدة في السياسات الروسية التي تتسم بالتكتم والسرية، فمثلما كان قرار التدخل الروسي متوقعاً، كان موعده وحجمه ومفاعيله الميدانية والمدى المكاني وبنك الأهداف مفاجئاً، جاء أيضاً قرار سحب القوات مثله. أيضاً مثلما كان قرار التدخل الروسي له مردود ونتائج ورسائل عند كافة أطراف الأزمة السورية، فقرار سحب القوات الأساسية خلف نفس الأمر، خاصة وأن الأزمة السورية تدخل طوّر جديد عنوانه التهدئة وبحث الحل السياسي ومفاعيل ذلك المتمثلة في جنيف 2 والتوافق الأميركي-الروسي على هذا، وتنحية كل من موسكووواشنطن للتباينات الخاصة بحلفائهم في المنطقة، وكذلك غض الطرف عن مطالبات هؤلاء الحلفاء وانتهاء مرحلة إرضائهم التي أدت إلى فوضى الخمس سنوات الماضية في سوريا والمنطقة والتي كان أبرزها فوضى "داعش"، واتفاق الطرفين على أن القضاء على خطر التنظيم الإرهابي وأخواته هو أولوية قصوى. هنا كان طبيعياً أن يكون القرار الروسي أمس بداية لمرحلة جديدة في تدوير زوايا الأزمة الروسية؛ هذا الأمر بدأ قبل شهور في المحادثات الثنائية بين موسكووواشنطن والتي أديرت من خلال وزراء خارجية البلدين، وتكللت ببيان الهدنة المشترك الشهر الماضي، والدفع الثنائي لحلفائهم من أجل إنفاذ جنيف 2. بالإضافة إلى أن المسار العام لموسكو منذ تدخلها في سوريا يوضح أن سحبها لقواتها الرئيسية كما جاء في صيغة بيان الكرملين أمس كان مثل قرار التدخل؛ مراحل تكتيكية في استراتيجية روسية بدأت ملامحها الأساسية في الظهور للمتابعين، وبالحد الأدنى تتمثل في أن يكون لموسكو يد فاعلة في المنطقة وفي حل الأزمة السورية بمشاركة واشنطن وليس بتفرد وانفراد الأخيرة بهذا طبقاً لرؤيتها وحدها، بعيداً عن الصدام المباشر. هذا الأمر مطروح منذ بداية التدخل الروسي فارتباطاً بدوافع روسيا الخاصة بتدخلها العسكري في سوريا، كان هذا له علاقة مباشرة بصراعها مع الولاياتالمتحدة ومحاولة الأولى أن تحافظ على موطئ قدم في المنطقة التي تنسحب منها الثانية. فبخلاف مسألة عودة إرهابيي دول الاتحاد السوفيتي السابق إلى بلادهم وتهديد الأمن القومي لروسيا وغيرها من الدوافع المشابهة والخاصة بسياق المصلحة الروسية الخالصة، ليس هناك دواعي جادة تجعل روسيا تصعد إلى الحد الذي سوّق في بعض وسائل الإعلام وقتها بأنه "بداية الحرب العالمية الثالثة"، فهذه المبالغة أتت على خلفية الصورة الذهنية لروسيا في وعيّ الكثيرين، ففي النهاية روسيا لم تعد الاتحاد السوفيتي، وقدراتها العسكرية والاقتصادية تجعل عملية عسكرية موسعة قد تصطدم فيها مع واشنطن خارج النطاق الحيوي الروسي أمر يكاد يكون مستحيلا في المرحلة التاريخية الحالية، ناهيك عن أن الأزمة السورية لا تنتهي بحل عسكري مضاد من جانب روسياودمشق وطهران بُنيّ على أجنحة 4 أسراب قتالية روسية (!)، ولكن واقعياً تهيئ باباً لحل سياسي تكون روسيا أيضاً وسيط مقبول لكل أطراف الأزمة، وأن خطواتها العسكرية الأخيرة أتت لترسم حدود وخطوط حمراء لن تطرح على طاولة مفاوضات. وفي السياق نفسه، يأتي التوافق الروسي-الأميركي على الأرضية والأولويات سابقة الذكر منحياً ما يطمح إليه حلفاء كل طرف، بل على مقياس تحقق المصلحة المباشرة لموسكو والتي تحركت على أساسها منذ بداية التدخل العسكري، والتي تقاطعت مع مصلحة حلفائها في دمشق وطهران، فروسيا كانت ترى أن أولويتها غلق الحدود مع تركيا وإعادة المبادرة والمبادأة الميدانية على الأرض للجيش السوري وحلفاؤه وأن ذلك يحقق في الوقت نفسه مصلحتها المباشرة المتعلقة بتأمين الخط الأول لمجالها الحيوي جنوباً ويوفر شرعية لتواجد مستقبلي في المنطقة وخاصة شرق المتوسط، بينما يريد حلفاء موسكو في إيرانوسوريا أن تستكمل الأولى حسمها العسكري وفرض اليد العليا لهم في الميدان والتفاوض، وعلى الطرف الأخر كانت واشنطن تعمل على لملمة فوضى حربها وتحالفها الدولي الذي تقوده ضد داعش، ورأب الصدوع فيه بين رؤيتها وبين رؤية حلفائها وخاصة تركيا والسعودية، وهو ما لم يحدث طيلة العام ونصف الماضيين، وهو ما دفعها في النهاية بعد التدخل الروسي الذي قلب الموازين الميدانية والعسكرية إلى التعاطي مع موسكو بغية الوصول إلى تسوية سلمية بديلة عن حرب يريد كل من حلفاء الطرفين الاستمرار فيها وربما خوضها بالوكالة من خلال البلدين. ناهيك عن أن ضرورة البدء في مسار تسوية سياسية وإنهاء الحرب صار مطلب مُلّح لكل من الولاياتالمتحدةوروسيا، فالأولى يتبقى من عمر إدارة رئيسها عام أخير لا يرغب أحد في أن يكون بداية حرب جديدة، فيما موسكو لا تريد أن تصبح سوريا تكرار لتجربة استنزاف جديدة مثل ما حدث لواشنطن في العراق أو ما حدث لها في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي. في هذا الإطار يكون انتهاء المهمة العسكرية الروسية بتعبير بوتين منطقي، فغني عن الذكر أن الحرب هي ممارسة للسياسة بطرق أخرى، بخلاف أن المردود الإعلامي والدعائي من معظم الأطراف حتى الأن يغيب عنه أن سحب موسكو للجزء الرئيسي من قواتها بعد انتهاء مهمة تكتيكية في استراتيجية أوسع تنفيذها غير منوط بالقوة العسكرية فقط، ناهيك عن أن هذا "الانسحاب" ماهو إلا تخفيض للتواجد العسكري الروسي في سوريا وليس إنهاءه، فسحب أسراب القاذفات التكتيكية وجزء من المروحيات الهجومية وطائرات النقل العسكري قابله بقاء سربي مقاتلات سوخوي 30و35 والمكلفين مع بطاريات منظومة إس 400 بحماية التواجد الروسي في طرسوس وحميميم، وإن أنعكس هذا بطبيعة الحال على سير العمليات الميدانية التي أنتقلت من الهجوم إلى تثبيت خطوط وقف إطلاق النار. وبشكل عام فإن القرار الروسي الأخير ومخرجاته الدولية والإقليمية يأتي في سياق فك الاشتباك الذي بدأ بالتوافق بين موسكووواشنطن، وتالياً قدرة الاثنين معاً على فك الاشتباك الإقليمي بينهما وبين حلفاءهم وصولاً إلى تسوية سلمية تنتج عن تدوير عجلة المسار السياسي، فعلى سبيل المثال كان موقف كل من الطرفين إزاء تصريحات حلفائهم حول مسألة بقاء الرئيس السوري من عدمها غير مرضية لهم، فمن ناحية كان تصريحات دمشق في أقصى حد لها وذات نبرة عالية عن الموجة الروسية بما يفترض أن هناك استئناف للانجازات الميدانية العسكرية مستقبلاً وهو ما لا تريده موسكو، وعلى الطرف الأخر كان وزير الخارجية الأميركية، جون كيري يهون من تصريحات "المعارضات" السورية حول نفس النقطة مرجعاً إياها لنقطة "ما يقرره الشعب السوري" وذلك بغرض عدم تعقيد مسار التفاوض قبل أن يبدأ، وهذا لم يكن في إمكانه الحدوث دون فك الاشتباك الميداني أولاً، والذي حدث بعد أن حققت موسكو ما أرادته على أرض المعركة، وفي سبيل ما تريده واشنطن على طاولة المفاوضات.. باختصار إجبار كل من حلفاء واشنطنوموسكو على إيجاد موقف أكثر مرونة في المفاوضات المُقبلة والقبول بالخطوط العريضة للتوافق الذي حدث بين العاصمتين.