"أنا اللي بهرني ونفسي أجيبه من اليابان وكوريا هو الإنسان الياباني اللي أنا شوفته مش أي حاجة تانية، بدون مبالغة البني آدم في اليابان وكوريا، معندهوش أي مواهب، لكن بصبره وأدبه وعمله وإنضباطه الشديد، بيعمل أشغال تأتي بالمليارات، كل العالم عنده صناعات متقدمة وتكنولوجيا، لكن مش كل العالم عنده ناس بالطريقة دي، بالأداء ده، وبالتضحية دي، وبالخلق ده، والأهم من كل ده بحبهم الحقيقي لبلادهم". هكذا تحدث الجنرال، للمرة الثانية في نفس الشهر، على إحدى القنوات الفضائية المشفرة.. يريد أن يأتي بالمواطن الياباني إلى مصر؛ لما رآه منه من تفاني وإخلاص وعمل دؤوب لخدمة بلاده. ومثلما يريد الجنرال أن يأتي بالمواطن الياباني إلى وطننا العزيز، نحن بالمثل نريد أن نأتي بإمبراطور اليابان وبالحكومة اليابانية؛ لكي يفعلوا في مصر ما فعلوه في اليابان. تغافل الجنرال عن عمد، أو عن عدم معرفة، ما فعلته الحكومة اليابانية لشعبها منذ لحظة ولادته لكي يصبح بهذا الانضباط والدقة والقدرة الإنتاجية، التي يتحدث عنها. لم يذكر الجنرال أن حكومة اليابان غرست في الإنسان الياباني المعني الحقيقي لحب الوطن والانتماء إليها، ليس عبر تلك الأغاني الوطنية المبتذلة، بل عبر توفير المناخ الملائم له؛ لكي يصبح كما يراه الآن، علمت مواطنيها منذ الصغر العدالة الاجتماعية والمساواة، ورفض كافة أنواع التمييز بين أبناء الشعب الواحد. لم يخرج وزير العدل الياباني ليقول لمواطنيه "نحن هنا على أرض هذا الوطن أسياد، وغيرنا هم العبيد، أو عن تعيين أبناء القضاة سنة بسنة، وأنه لن تستطيع أية قوة في اليابان أن توقف هذا الزحف المقدس"، ولم يتم شحنهم عبر وسائل الإعلام بخطابات التحريض والكره والتفرقة فيما بينهم، بل جعلت مديري المدارس ينظفون مدارسهم كل يوم مع التلاميذ والمدرسين، لإرساء قواعد المساواة والعدل، ليأكل المدرسون أكل التلاميذ -قبلهم بنصف ساعة- للتأكد من سلامته، ويجبرون الأطفال في المدارس على استخدام فرش الأسنان المعقمة، وينظفون أسنانهم في المدرسة بعد الأكل. هل تعلم يا سيادة الجنرال أن الحكومة اليابانية تصرف على صحة كل مواطن يابانى 4000 دولار فى السنة، وأن معدل تأخر القطارات في اليابان خلال العام بأكمله هو 7 ثوانٍ في السنة، وأن عامل النظافة يُسمى "مهندسًا صحيًا" ويتقاضي حوالي 8000 دولار أمريكي في الشهر، ويخضع قبل انتدابه لاختبارات شفوية وخطية، وأن هذه الحكومة اليابانية تقوم بتدريس مادة لطلاب الصف الأول الابتدائي، تتضمن التركيز على تعليم الأطفال اليابانيين أدق التفاصيل، مثل طريقة المشي، ومستوي الصوت، ودرجة الانحناء عند التحية، وصولًا إلى الكلمات التي يجب إختيارها عند مخاطبة الآخرين، كلٌ حسب عمره، كل هذه الأشياء لتشجيع الطلاب على التفكير دون تحيز، ومنع المضايقات والإساءات في المدارس، للحيلولة بين الأحداث وبين ارتكاب جرائم. يا أيها الجنرال، قبل أن تتحدث عن شعوب الدول المتقدمة، وما تقدمه من تضحيات لنهضة دُولها عن طريق التفاني في العمل وما إلى هذه الكلمات الجميلة البراقة، أنظر لرؤساء وحكومات هذه الدول، وكيف ينتحر هذا الوزير أو يستقيل ذاك المسؤول، وتعلم منهم كيف يقدسون الإنسان ويحترمون حقوقه، وقارن بين ما يحدث هناك وما يحدث بمصر، وكيف يحتقر فيها نظامك الإنسان ويهينه، انظر إلى معتقلاتك، وكيف تسابق الزمن لتشييد سجون جديدة لكي تستوعب عشرات الآلاف من المعتقلين.. وانظر إلي حالات الإختفاء القسري، أو حبس الصحفيين، وكيف يتم منعهم من السفر مثلما حدث مع الشاعر عمر حاذق والصحفي حسام بهجت، والحقوقي جمال عيد، وغيرهم كثيرين، حتى القادمين إلى مصر لم ترحمهم أمن دولتك، واعتقلتهم فور أن وطأت أقدامهم أرض المطار، كما حدث مع الصحافي إسماعيل الإسكندراني، الذي تجاوزت فترة اعتقاله المائة، بعد تلفيق تهم ساذجة وسخيفة له، لا تمت للواقع بصلة. لا يوجد عندهم مذيعة قالت على رئيس حكومتها أنه فاشل، وأن الشعب يعاني الأمرين في عهده، ولا يعرف كيف يُدير البلاد، وفي اليوم التالي يتم وقفها عن العمل بزعم عدم التزامها بالمعايير المهنية. (2) يقول الجنرال في موقع آخر: "إنتم أهلي وناسي، وإذا كنتم بتثقوا فيا إعرفوا إني ببذل أقصى جهد ممكن أنا والحكومة؛ علشان نغير الواقع المؤلم، من فضلكم لازم يكون عندكم جلد وصبر وثقة فيا، وأرجو منكم أن تعطوني الفرصة، وتصبروا". أخيرًا استشعر أن هناك مشكلة حقيقية، برغم أنه أراد أن يُظهر هذه المشكلة على أنها تنبع من سوء تواصل بين الدولة العميقة بكل مؤسساتها -المؤيدة له- وبين الشعب، عبر مداخلة هاتفية في إحدي البرامج .. عاد لنبرة اللعب على أوتار المشاعر، وحاول أن يظهر نفسه بمظهر أب الأسرة الذي يستعطف ويطلب من أبنائه ألا يتغافلوا عما يبذله من وقت وجهد وعمل شاق من أجلهم، وعن معاناته والصعاب التي يتكابدها أثناء عمله، من أجل أن يوفر لهم تلك اللقيمات التي يأتيهم بها وهم قُعود. عندما يرتكب شخص ما فعلًا شنيعًا أو جرمًا في حق شخص آخر، وهو يعلم أنه مخطأ وعلى باطل، ويواجهه الآخر بما إرتكب من جرم، يستهل حديثه بكلمات إستعطاف ولعب على العاطفة، وفي الخطوة التالية يتحدث عن المبررات والدوافع التي جعلته يفعل كل هذه الأشياء، وأخيرًا وليس آخرًا يقلب الحقائق ويوجه اللوم إلى الشخص الذي واجهه، ويعدد له الصعاب التي واجهته، ثم يأتي بأمثلة من هنا وهناك ليبرهن بأنه يتحمل الكثير والكثير. وسواء كان عن عمد أو دون قصد، لا تجد للغة العقل والمنطق مكان بين خطاباته، يصول ويجول الجنرال وتظل لغة العاطفة هي اللغة الأم التي يتحدث بها في كل خطاب ومداخلة مداعبًا مؤيديه تارة ومهددًا معارضيه تارة أخرى، متجاهلًا أن إفراطه في استخدام هذه اللغة سيفقده إن آجلًا أو عاجلًا مصداقيته وبريقه بين مؤيديه.