في ظل الدعوات الكثيرة المتناثرة في الآونة الأخيرة لتجديد الخطاب الديني التي لا تسعى لتحرير الإسلام من سطوة الفكر السلفي بقدر ما تسعى لتكريس سلفية جديدة أكثر إخلاصًا وخدمة للسلطة الحاكمة، يأتي كتاب "الحداثة والقرآن" للباحث المغربي سعيد ناشيد، الصادر عن دار التنوير، ليقدم طرحا مهما وجادا وجرىء لقضية تجديد الفكر الدين من خلال مناقشة إشكالية النص الديني "القرآن" في مواجهة الحداثة. القرآن بين السماء والأرض لا يستهلك سعيد ناشيد طاقته في مقدمات نظرية طويلة، ولا يرواغ القارىء بألفاظ ومصطلحات معقدة ومبهمة، وإنما يدخل إلى موضوعه مباشرة، متسألًا "ما القرآن؟" ومن خلال هذا التساؤل يحاول تحرير النص الديني من كل ما علق به على مدار قرون طويلة من مسلمات وتأويلات في غير محلها، ويوضح ناشيد أننا عندما نتكلم عن القرآن عادة ما نخلط بين ثلاث ظواهر متباينة وهى : 1- الوحي الرباني: وهو صور وحيانية استشعرها الرسول، ويحاول التعبير عنها وتمثّلها، إمّا عبر قوّته التّخييلية، كما يقول الفارابي وابن سينا وابن عربي واسبينوزا عن تجارب النّبوة، أو عبر القلب والوجدان كما يشرح أحمد القبانجي. 2- القرآن المحمدي: وهو ثمرة جهد الرسول في تأويل الوحي وترجمة الإشارات الإلهية إلى آيات شفهية، انطلاقًا من وعيه وثقافته وشخصيته وقدرته التأويلية. 3- المصحف العثماني: وهو ثمرة جهد المسلمين في تحويل القرآن المحمدي من آيات شفهية متناثرة إلى مصاحف متعدّدة، ثمّ من مصاحف متعدّدة إلى مصحف واحد جامع. وهنا يتسأل الكاتب أين "كلام الله" من هذا؟، ويجيب أننا لا نملك من "كلام الله" غير "كلام رسول الله"، مشيراً إلى أن الوحي الإلهي بعد أن صيره الرسول قرآنا محمدياً ثم صيره المسلمون مصحفاً عثمانياً، صار نصاً بشرياً. ويوضح ناشيد أن عدم قدسية القرآن ليست إنتقاصاً منه، لكنها تأكيد لحقيقة أن القرآن مخلوق كما قال المعتزلة، وكل مخلوق محكوم عليه بالنقص والنسبية، فالكمال لله وحده "باسم الإسلام وبدعوى حماية الإسلام ارتدت الثقافة الدينية الإسلامية عن مبدأ التوحيد الربوبي، وسقطت سهوًا أو قصدًا في شرك تقديس النص الديني، لقد أوصلنا تقديس النص الديني والعجز عن تخطي أحكامه إلى سبات العقل، وجمود الوجدان، وضمور الإرادة. أوصلنا إلى "إيمان العجائز" القائم على الخوف". العالم القديم والحديث يشير الكاتب إلى أن القرآن جاء مخاطبًا العالم القديم، وهناك فروق شاسعة بين العالم القديم والحديث في منظومة المعرفة والقيم والعلوم "معضلة النصوص الدينية لكافة الأديان أنها كتبت في مرحلة كان المجتمع بلا مؤسسات، والسلطة بلا قوانين، والمعرفة بلا مناهج، واللغة بلا قواعد. وبالتالي طبيعي أن تبدو تلك النصوص اليوم قاصرة عن إنتاج أي نظام قيَمي أو معرفي فعال، بقدر ما تبدو للبعض أنها قابلة لكل التأويلات والتفسيرات مهما بدت متناقضة. غير أن الحديث عن القصور ليس انتقاصًا من الذات الإلهية كما يظن عبدة النصوص، ولكنه تأكيد لحقيقة بديهية : الكمال للخالق دون المخلوق"، وفي هذا السياق يوضح ناشيد أن دور القرآن الأساسي هى التعبد، نتلوه ونرتله في الصلوات ونتواصل به مع الله، فالقرآن ليس دستورًا كما يزعم بعض من يستخدمونه لخدمة مصالحهم السلطوية، والقرآن ليس كتابًا علميًّا يحوي بين طياته نظريات علمية كما يزعم البعض الآخر بدعوى الإعجاز العلمي. الإصلاح الديني يؤكد ناشيد إلى أن أولى خطوات الإصلاح الديني تكمن في إدراك أن التحرر من مفاهيم وقيم العالم القديم القائمة على النظرة السحرية للعالم "الإصلاح رهين بتحرير الخطاب الديني من مفاهيم العالم القديم، أي تحريره من مفاهيم الطاعة والولاء والتحريم، ومن قيم العار والعورة والتابو، ومن وساس التعويذات والرقية والتنجيم"، مشيرًا إلى أننا بحاجة إلى خطاب ديني جديد يستبدل مفاهيم العالم القديم بمفاهيم تنتمي الى عصر الحداثة بكل ما تحمله من قيم الحرية والمساواة والعدالة والديمقراطية والفردية والعقلانية، ولتوضيح الفروق في منظومة القيم بين العالم الحديث والقديم، وفي هذا السياق يذكر ناشيد عدة أمثلة منها " في المجتمعات القديمة كان تزويج طفلة في سن الثانية عشر يعد فضيلة، وكانت مشاركة أطفال دون سن الرابعة عشر في الأعمال القتالية يعد بطولة، وكان القتل والاغتصاب أثناء الحروب والغزوات حقًا من حقوق المنتصرين، وكان تنفيذ عقوبة الإعدام أمام مرأى الجميع نوعًا من الإنصاف، لكن ضمائرنا، وحتى بنيتنا العصبية، لم تعد تتحمل اليوم مثل هذه الأعمال . فقد صرنا ميالين الى تجريم الكثير من فضائل القدماء، ما يؤكد أن العقل الأخلاقي يتغير عبر التاريخ". لا يكتفي الكاتب بانتقاد أصحاب المنهج السلفي فقط، لكنه أيضاً يرصد إشكاليات مماثلة عند العديد من المفكريين المعاصرين مثل: محمد شحرور ومحمد عابد الجابري وغيرهم من الذين حاولوا أن يقدموا رؤية عصرية للقرآن، فحمولها بما لا يحتمل، وأضفوا عليه مزيدًا من القدسية، والنتيجة أننا ندور في دائرة مفرغة "حمل المسلمون النص القرآني على الوجوه المحتملة، طرقوا كل الممكنات التفسيرية المتاحة، جربوا حميع المستويات التأويلية، من مناهج الظاهر إلى مدارج الباطن ، مددوا القياس إلى أبعد مدى ممكن ، جربوا الانتقائية بكافة متاحاتها، لكن لا جدوى ترجى. كما لو كانوا يحملون صخرة سيزيف إلى الأعلى ثم تتدحرج، فيعودون إليها من جديد". في الخاتمة يحدد سعيد ناشيد خمس نقاط رئيسية يلخص فيها رؤيته لقضية تجديد الخطاب والفكر الديني هي: أولًا: تحرير الخطاب الديني من النظرة السحرية للعالم بحيث لا يجوز عقلًا ولا يليق شرعًأ أن تخرج النصوص والشعائر عن سياقها التعبدي ونستعملها كرقية شرعية أو وصفة سحرية لغاية الخلاص من الفقر أو الشفاء من المرض ثانيًا: تحرير الخطاب الديني من التوظيف الإيديولوجي عن طريق التوقف عن استعمال الخطاب الديني من أجل السلطة ثالثًا: تحرير الخطاب الديني من النفس الغاضبة التي تقوم بالتحريض والتجييش ودغدغة مشاعر الاحتراب والحمية والعدوان رابعًا: تحرير الخطاب الديني من النزعة الطائفية خامسًا: تحرير الخطاب الديني من مفاهيم الفقه التقليدي وهى مفاهيم رائجة ويقود استعمالها إلى تقويض واجهاض ممكنات الحداثة السياسية من قبيل مفاهيم دار الإسلام ودار الحرب، وعقيدة الولاء والبراء، ومصطلحات كثيرة على شاكلة الجماعة والرعية وأهل الذمة. يبقى أن نؤكد أن الكاتب لم يدع أن ما يطرحه في هذا الكتاب لم يسبقه إليه أحد، بل على العكس أشار الكاتب في مقدمة الكتاب إلى أن كثير من الأفكار التي طرحها وطورها في هذا الكتاب قائمة على مجموعة من المقاربات التي جاء بها: الفارابي وابن سينا وابن عربي واسبينوزا، ومفكرين إيرانيين كعبد الكريم سروش ومحمد مجتهد شبستري والباحث العراقي أحمد القبانجي.