هي أشلاء دولة كما أكد الجنرال، بقايا أفكار وتصورات تجاوزها الزمن وسحقتها دوراته المتتابعة حتي رأي الجميع رأي العين زيف تلك الأفكار وزيف من لاكوها لما يربو علي نصف قرن.. تلك التصورات التي تجعل من مصر مفردة مستقلة بذاتها لا ترتبط بأولئك الذين يسكنونها ولا الذين يحكمونها و لا الذين يحملون لواء كهنوتها، فهي في علو و إن كان الشعب وضيعا بحسب تصورات حكامها، و هي في تقدم وإن كان الشعب حفنة من الحرافيش والهمج الذين لا يستقيم أمرهم إلا بالسياط، بحسب تصورات نخبتها، وهي حارسة الدين وحصن العقيدة وإن كان شعبها بعيدا عن الله ومغرقا في الضلال، بحسب كهنتها. إنها مصر التي تعيش في عالم موازٍ لا تلتقي مساراته مع مسارات الحرافيش الذين يسكنونها، فلا يرون ما تراه، و لا ينعمون بما تنعم به، ولا يقفون في شموخ يبنون قواعد المجد كما تبني، فهي تحيا بذاتها ليقف الخلق ينظرون كيف تبني قواعد المجد وحدها! تحولت مصر (تلك المفردة التي لا تعدو سطرا في قاموس اللغة) إلى لاهوت يحتاج إلي كهنة، كهنة يتلقّون الوحي، وينقلون عنها لغير المؤمنين من سكانها الذين لا يعنيهم المجد ولا العلو ولا وقوف الخلق طالما يشقون كي يروا الشمس، وكي يجدوا طعام اليوم، و كي يفلتوا من براثن السجون، و كي يتجنبوا الرصاص، وكلما زاد ابتلاء السكان بعسر العيش وزادت مطالبهم كلما زاد الكهنة في جلدهم مصر تلك التي لا يدركون حجمها ولا مجدها ولا علو شأنها , كما لا يؤتمنون عليها ولا علي تاريخها ولا قيمتها! وكما خلقت تلك المفردة اللاهوتية عالمها الخاص، خلقت أيضا كهنتها وسدنة معبدها الذين آلت لهم حقوق الوصاية، فصار من يحكم تلك المفردة هو الأب والراعي الذي يقتل السكان كي تحيا مصر، وينكّل بهم كي تعلو قواعد مجدها، ويشقيهم في معاشهم كي تسمن وتكبر حتي تبقي "قد الدنيا"، و الراعي وحده هو من يري الصالح و يقرّبه، ويري الأشرار و يعاقبهم! لا عجب بعد هذا أن يخاطب الجنرال (كبير كهنة مصر تلك) الشباب الذين يقتلهم ليؤكد لهم أنهم أبناؤه، فتلك تصوراتهم وتلك عقيدتهم التي تبدو مشوشة في عيون الأسوياء، فهم يتحدثون لغة غير تلك التي نتحدثها، و يرون أشياءً غير تلك التي يراها العالم من حولهم، هم كمرضي الفصام الذين يحيون بأجسادهم بيننا فيما تهيم عقولهم في أكوان بعيدة من صنع خيالاتهم المريضة، و هو داءٌ عضال لو تعلمون ! غير أن مصر ليست تلك المفردة السخيفة التي حين تُنطق على العيون أن تذرف من التأثر، و على القلوب أن تعتريها القشعريرة من وقع المُسمّي، وإنما هي هؤلاء الكادحون الذين تكسوهم غبرة الزمن وتدهس أرواحهم المعاناة، هم أولئك الذين تدهس تلك المفردة أحلامهم، وتُزيّف وعيهم، وتبني وهما خالصا علي جثثهم وعلي أعمارهم .. مصر التي لا يعرفها كبير الكنهة وحاشيته هي تلك التي البقعة المأزومة التي تفتقر للتعليم والمستشفيات ووسائل العيش الكريم، وهي ليست "قريبة" كما يدّعي ويدّعي خصيانه، بل هي بعيدة بُعد المشرقين عن الحضارة وعن أدوات التقدم.. و قاهرتها ليست ذلك المكان العالي المحاط بالأسوار الذي يتغنّي به مسوخ نخبته، بل هي تلك المدينة المأزومة الملوثة التي تقصف أعمار ساكنيها، والشباب الذي يصفهم بأنهم أبناؤه ليسوا سوي بعضا من رفاق ضحاياه، والدولة التي يدّعي أنها أشلاء يحاول بعثها من جديد، هي بالفعل أشلاء لجثة ترقد بثقلها فوق أجساد الأشقياء! فهل يدرك الجنرال أن الشباب الذي يَدّعي محاولة إحتواءه هم ما بين قتيل بأيدي رجاله، وحبيس في سجونه، و فار من أشلاء دولته! وهل يدرك الجنرال أن شهداء الألتراس الذين يدّعي محاولة القصاص لهم قد قضوا علي يده، وعلي يد بصّاصيه الذين حكّمهم في رقاب العباد، وعلي يد جوقته المجرمة التي انتقاها لبرلمانه، وعلي يد صبيانه الذين أجلسهم في مقاعد خطباء المجالس! لقد شاركت كافة أركان الثورة المضادة في مذبحة بورسعيد، بدءا من الإعلام الذي حرّض لسنوات ضد شباب الألتراس، وعلي رأسهم أحمد شوبير الذي استشهد الجنرال بكلامه، والداخلية التي عادت هؤلاء الشباب لسنوات قبل الثورة، وازداد عداءها لهم في أعقاب الثورة، وهم ذاتهم رجال الجنرال الآن الذين مكنّهم الجنرال مجددا من مقادير الناس، والمجلس العسكري الذي كان الجنرال عضوا به، والذي قاد معركة الثورة المضادة بدأب وتؤدة شديدين لتصفية كل تنظيمات الثورة الناشئة وشيطنة كل من شارك بها بما في ذلك شباب الألتراس الذين يدّعي الجنرال رغبته في القصاص لدمائهم! وفوق كل شركاء الجريمة هؤلاء كان هناك جمهور الثورة المضادة الذي شارك بالتواطؤ والصمت .. لقد رأينا مبكرا رأي العين كم كان هذا الجمهور كارها للثورة وكارها للثائرين، و كم كان مستعدا لارتكاب المذابح والتشفي في الضحايا و الرقص على الجثث وتأييد القتلة أو الصمت علي جرائمهم .. و هم هؤلاء الذين طلب الجنرال تفويضهم لاحقا للقتل و التنكيل بالجميع! قد يعتقد الكثيرون أن الجنرال كبير كهنة دولة الأشلاء هو محض أفّاق، وأغلب الظن أنه كذلك، لكن المعضلة ألا يكون كذلك، فبوسعك أن تواجه الأفّاق بأكاذيبه وتفضحه علي رؤوس الأشهاد، لكن ماذا تفعل حيال مريض بالفصام، وماذا تفعل حيال كثيرين من عينته يحاصرونك لا بأوهامهم فقط، بل برصاصهم أيضا!