تبدأ "الجمهورية الجديدة" في مصر وسط عالم يمر بتحولات جوهرية حقا ويواجه اسئلة كبرى تؤشر لأزمة عميقة فيما تتوالى الاجتهادات والطروحات والمراجعات لبناء عالم افضل يقوم على ثقافة الحق التي يأمل المصريون ان تكون عماد مجتمعهم بعد ثورتين شعبيتين ضد الظلم بكل الوانه وصنوفه ومراوغاته. وفي بلد مثل بريطانيا تجرى الآن مراجعات عميقة وعلى حد قول دافيد ماركواند في كتابه الجديد :"مملكة عبادة المال..اطروحة حول بريطانيا الآن " فان الأمور في الواقع البريطاني ليست على مايرام فالجشع استشرى وعدم المساواة تتفشى والسؤال :"كيف نصنع مجتمعا لايتحول فيه المال الى وثن نعبده ويتزلف له الجميع؟!..كيف نبني مجتمعا يكون فيه البشر اكثر تقديرا ومراعاة لبعضهم البعض؟!". ومع ان شعار "لاتكن شريرا" كان منذ 16 عاما من الشعارات التأسيسية لكيان رقمي معرفي عملاق مثل "جوجل" فان الواقع الغربي ينتج شروره فاذا بهذه الشرور قد طالت حتى هذا الكيان بشعاره المناويء للشر واذا بالجدل يحتدم حول قضايا تتعلق به مثل التهرب من الضرائب او انتهاك خصوصية البشر. فالرأسمالية تمر بأزمة في عصر الاقتصاد المعرفي كما يقول مؤلف هذا الكتاب الجديد وهي ازمة اخلاقية في المقام الأول ثم انها ازمة لها تجلياتها المادية الصادمة على نحو ماتبدى فيما سمي بالأزمة المالية العالمية التي انفجرت عام 2008. وفي الحقيقة والجوهر فان تلك الأزمة المالية كانت وليدة الأزمة الاخلاقية وغض النظر في الولاياتالمتحدة والغرب عموما عن شرور وجشع القائمين على الكيانات المصرفية والمؤسسات المالية العملاقة فيما راحت الشروخ في بنية المجتمعات الغربية تتحول الى فجوات مخيفة ومضى كثير من البشر هناك يتحسسون اوجاعهم وآلامهم وهم يجترون التساؤلات حول معنى العالم ومغزى وجودهم. وهكذا عاد السؤال القديم :"ماالعمل"؟! ليعبر عن حيرة الانسان في عالم مأزوم وصدرت كتب مثل الكتاب الجديد لدافيد ماركواند في محاولة للاجابة على السؤال القلق والكبير فيما يرى ماركواند ان الحل لايكمن في تبني سياسات التقشف او "المحفزات الكينزية" كما انه بالتأكيد ليس في الرأسمالية الطليقة من كل قيد او ضابط انساني والتي لاتكترث بدموع الضعفاء وآلام المحتاجين في سوق تسحق الكثير من القيم الانسانية. الحل كما يراه مؤلف كتاب "مملكة عبادة المال" هو الحفر عميقا عند الجذور ليس فقط لاعادة صنع اقتصاد جديد اكثر انسانية وانما ايضا وربما الأهم اعادة صنع المجتمع القائم على هذا الاقتصاد وهذا الحل في جوهره هو حل ثقافي يرنو نحو عالم اكثر انسانية ويسلم بأن "الرأسمالية الطيبة بحاجة لأناس طيبين وثقافة لاتتمحور حول طغيان الانانية الفردانية وتسلط الشخص على المجوع وهي ثقافة مضادة لكهنة معبد الرأسمالية المتوحشة بقدر ما تعزز الحرية والاختيار" وهذا المجتمع الجديد كما يتصوره جدليا سيكون بمقدور الاقتصاد ان ينمو دوما. إنها "ثقافة الحق" المؤسسة "للمجتمع المحترم او الخلوق الذي لايهين افراده" وحسبما يقول دافيد ماركواند فالقضية لاتتعلق فحسب بمجتمع يحترم حقوق الانسان وانما بمجتمع لايسمح باستغلال افراده دون وجه حق في عملهم او التغاضي عن المشردين او الحط من قيمة واعتبار الفقراء والمحتاجين وشيطنة من القت بهم مقاديرهم في عرض الطريق او الاستسلام المتواطيء لمقولة ان آليات السوق بمقدورها تضميد كل الجراح!. العالم يتغير ويشهد تحولات للاجابة عن اسئلة كبرى واستجابة لتحديات باتت تضرب الوجود الانساني في الصميم وهناك من يرى ان ثورة 30 يونيو وتداعياتها تسهم بقوة في صياغة عالم جديد تغرب فيه شمس قوى هيمنت طويلا على مقادير هذا العالم فيما تصعد قوى جديدة لصدارة المشهد الدولي بصورة قد تعيد للأذهان على نحو ما ومع الأخذ في الاعتبار اختلاف التفاصيل والمعطيات ماحدث بعد "حرب السويس" عام 1956 من تراجع قوى الهيمنة القديمة وصعود قوى جديدة. ومصر تجتاز الأن مرحلة حاسمة بحق في ظل استهداف للدولة بمخاطر وتهديدات الارهاب فيما كان للشعب المصري العظيم ان يقول كلمته باختيار "الرجل القوي الوطني والقادر على اتخاذ القرار في الجمهورية الجديدة كجمهورية للحرية والعدل والأمل والعمل والمستقبل الأفضل على قاعدة مباديء واهداف ومكتسبات ثورتي يناير-يونيو". ومن حسن الطالع ان الرئيس المنتخب لمصر والقادم لموقع المسؤولية الأولى في الجمهورية الجديدة بارادة شعبية غلابة ليس محسوبا على اي تيار بعينه او فئة على وجه الخصوص وانما هو "ابن الشعب والمقاتل الوفي في صفوف الجيش الوطني الذي يرحب ابنائه بالشهادة دفاعا عن شعبهم وردا لكل من تسول له نفسه او يزين له غروره امكانية التسلط على هذا الشعب الأبي ". وتصب اقوال وافعال الرئيس عبد الفتاح السيسي في رحابة ثقافة الحق ومناوئة جريمة التجريف الثقافي والانفلات الاخلاقي التي تعرضت لها مصر على يد من لايعرف قدرها وفضائل شعبها وعلى مدى سنوات من هجوم غاشم لجحافل المتسلقين والانتهازيين ضد كل مايمت لثقافة الحق بصلة او وشيجة. واستمرت هذه الحالة من التجريف الانساني والثقافي واستهداف مقومات النجاح لأي مجتمع سوي فيما العالم يمضي بالفعل باحثا عن حلول لأزماته وموغلا بعيدا بعيدا في مدهشات الابتكار واستعارة المفاهيم وتفاعلها بين مجالات قد تبدو متباعدة للغاية لكنها في الواقع امست قريبة بشدة من بعضها البعض في ظل العلاقات الشبكية ومنجزات شبكة الانترنت. يصعد "الربان لسطح السفينة ويقودها بثقافة الحق" في عالم يفتقر للحق ويتلمس طريقه الآن لهذه الثقافة كترياق لعلل وازمات كادت تطيح بالانسان المعاصر في دنيا تندفع بايقاع شبكة الانترنت نحو مستقبل تتصارع القوى الكبرى الآن على تحديد ملامحه وقد تتفق على صيغة ما لتقاسم غنائمه رغم محاولات مثقفين كبار في الغرب للبحث عن معنى اكثر انسانية لهذا المستقبل ومحاولة اضفاء طابع اخلاقي على الثورة الصناعية الجديدة والاقتصاد الرقمي. ولاجدال أن شباب مصر بحاجة لمن يحتضنهم بعد ان ظلمهم نظام اسبق ثم نظام سابق حاول خداعهم بشعارات تتاجر بالدين ولعل "ثقافة الحق" تكون افضل قدوة للشباب الذي مزقته تناقضات الواقع في ظل الفساد والاستبداد والاتجار بالدين العظيم. واذا كانت هناك تقديرات تصل بالبطالة بين الشباب لما يقرب من 13 مليون شاب وربما اكثر فان مصر في جمهوريتها الجديدة لايمكن ان تتناقض مع شبابها او تسمح بتحويلهم الى لغم يهدد الوجود ويقوض المستقبل كما انها لم تعد تتحمل ان تترك اعز ارصدتها الانسانية نهبا لجموح شرذمة مستعدة لأن تفعل اي شيء وكل شيء من اجل نجومية تتوهمها على شاشات التلفزة دون ان ترعى حقوق الوطن وحق الشباب وثقافة الحق وهي ظاهرة تتوالى تحذيرات مثقفين وطنيين مثل جمال الغيطاني من خطورتها . وفيما تتعاظم الآمال في "سطوع ثقافة الحق بالجمهورية الجديدة في مصر" كوطن يحتضن شاباه ويكفل الحرية والعدل والكرامة للجميع تتوالى التنظيرات والطروحات في الغرب بحثا عن حلول للواقع المأزوم ويتحدث كريس اندرسون في كتابه "صانعون: الثورة الصناعية الجديدة" عن مفهوم "الانسان المشروع" اي ذلك الذي يحمل مشروعا هو في الحقيقة جزء من المشروع الكبير او الحلم الجمعي لبلده و"يوتوبيا واقعية لامكان فيها لعاطل". والثورة الصناعية الجديدة في تنظير كريس اندرسون تقوم على شبكة الانترنت وتعتمد تماما على مفاهيم العصر الرقمي و"معامل الابتكار" و"جسارة الخيال" مع توظيف التقنية الرقمية بما يتناسب مع مواهب كل فرد وميوله وقدراته. والمهم في هذا السياق انها تتيح للفرد الواحد او حسب تعبيره "الكائن المنتج" ان يتحول بالفعل الى مؤسسة بمفردها او مشروع اقتصادي وبالتالي توسع من نطاق حريته ضمن علاقات شبكية مع بقية افراد المجتمع المنتج . فالغرب وفي طليعته الولاياتالمتحدة لايغفل لحظة عن توظيف كل جديد في التقنية ضمن علاقات شبكية تخدم مصالحه ومعاركه وفي مقدمتها المعركة الاقتصادية الكبرى مع الصين حتى ان هناك من يعتبر هذه "الثورة الصناعية الجديدة" التي تعني التفعيل الانتاجي الكامل للمجتمع السلاح الموعود لهزيمة الصين في منازلة هذا القرن والتي تجمع مابين تحولات الاقتصاد والجيبوليتيك. انه الصراع الكبير والسؤال الخطير :"من يملك المستقبل" والغرب الأن بات بعد الأزمة الاقتصادية الأخيرة اكثر اصرارا على فلسفة الاتقان واكثر حرصا على معايير الجودة وافكار القيمة المضافة في كل مجالات الانتاج. وفي خضم قضايا مثل مآلات القيمة الاقتصادية ومساراتها في عصر المعلومات فان السؤال الطبيعي :"ونحن!..اين نحن من هذه المتغيرات الخطرة في العالم والاقتصاد الرقمي؟!..نحن نخرج من ايام عصيبة اختلطت فيها على نحو غير مسبوق الثوابت بالمتغيرات واوغل البعض في لعبة خلط الدين بالسياسة والأيديولوجيات وتأويلات التاريخ والموروث وكلها واجهات تخفي صراع المصالح بقدر ماتشكل ستار دخان كثيف كاد ان يحجب المستقبل عن المنطقة وفي القلب منها مصر على امل تحويلها للأرض الخراب كما تمنى اعداء مصر والأمة. وإذا كانت الأماني قد غرت القوى المعادية لمصر وأمتها العربية والبعض بدا راغبا في تحويل ماعرف بالربيع العربي الى فجيعة جديدة تضاف لتاريخ فجائعي عربي فان مصر مدعوة هذا العام بالحاح لثقافة الحق و الأمل والعمل واستشراف المستقبل بعين بصيرتها التاريخية . ومصر ثورتها في الأصل مهمومة بالمستقبل والعالم الآن بمثقفيه الكبار مهموم باسئلة كبيرة وتساؤلات قلقة فيما تلوح البشارة الآن للمصريين في جمهوريتهم الجديدة لأن الحياة غلابة والأمل القائم على المعرفة وقود الى مستقبل قادر على زمانه كما ان هناك تاريخا لدى هذا الشعب يزكي ويرجح ويطمئن المتشوقين بلهفة لما ينتظرونه باستحقاق. لكن ثمة حاجة واضحة لمستويات جديدة من النضج والانضباط والمسؤولية الجماعية لبناء مستقبل مصري ولاوقت نضيعه في المتاهة الخرساء رغم الضجيج الظاهر حتى لانستجير في انتظار رحمة الامبريالية الجديدة في العصر الرقمي. تلك فاتحة حقبة تحدد افاق المنطقة ومآلات المصير العربي قبل ان يتموضع العالم مجددا ويرفع الستار صراحة عن الصراع الكوني الكبير وتحولات الجيبوليتيك بوسائل غير تقليدية بين "الجبابرة" على جانبي المحيط الهادي وفي شرق اسيا . هو عام الحسم بالفعل وذروة الصدام في المنطقة العربية بين مشاريع متعارضة ومتناقضة وفي معادلة الصراع وحتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود تبقى مصر الرقم الصعب والمستعصي ابدا على كل القوى المعادية للأمة. بالعقل الحر والفكر المبدع وبثقافة الحق والأمل والعمل تنفتح نوافذ النور وشرفات الأمل هذا العام في مصر لتبدأ في جني ثمار ثورتها الشعبية بموجتيها في 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013 وتتجسد خيارات العدل والحرية في ارض الكنانة. وكما يقول الكاتب والأديب جمال الغيطاني في حوار مع جريدة الأهرام مبديا تفاؤلا كبيرا بالمستقبل المصري "اشعر ان مصر تتوضأ وتتهيأ للمستقبل..اشعر بوجود روح جديدة في مصر كونتها مكتسبات ثورتي يناير ويونيو" . وأوضح الغيطاني ان هذا التفاؤل نابع من قراءته للتاريخ المصري ومعرفته للشخصية المصرية معيدا للأذهان ان ثورة يناير كانت نتيجة طبيعية للركود والبلادة واستشراء الفساد والبقاء الطويل في السلطة بما يشكله من مفسدة فضلا عن جهل الحاكم بالشخصية المصرية واستهانته بالشعب. أما ثورة يونيو فكان الخروج الشعبي فيها نقيا وافرزت زعيمها الشعبي كظاهرة طبيعية لايخترعها احد فيما يلاحظ جمال الغيطاني ظاهرة في الموروث المصري تتمثل في ان " الدولة المصرية في لحظة معينة تقدم الشخص المناسب لقيادة المرحلة" كما ان "الزعامة التي اتت للرئيس عبد الفتاح السيسي لم تأت من فراغ ولكن من شعور المصريين بمدى صدقه وحبه لوطنه". وفيما يتعلق بالشباب يقول الغيطاني :يجب ان نضع كلمة "الكفاءة" نصب اعيننا ومن ثم فالشباب يأخذ فرصته بالكفاءة وليس لمجرد انهم شباب منوها بأن الاحساس بالعدل" قد يكون اهم من تطبيقه فيما يوضح انه يركز على فكرة الدولة واهمية وجودها لأنها تعني المساواة والعدل والآمان. وفي تصور جمال الغيطاني فان على الرئيس عبد الفتاح السيسي ان يبدأ بملف الأمن معتبرا انه بتحقيق الأمن "ستأتي السياحة والاستثمار ويتبع ذلك تحسن الاقتصاد" فيما يدعو للتعامل مع المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي حسب الظروف المصرية "فمصر بدأت في تغيير العالم ولذا يجب الا تخضع الا للمعادلة المصرية". تاريخ مصر بالفعل كأسطورة طائر العنقاء الذي يحترق ويصير رمادا ثم يخرج منه خلق جديد فتحية للمصريين في جمهوريتهم الجديدة وعامهم الحاسم هذا..عام المصير والانتصار المأمول لامكانية التقدم بثقافة الحق وعقلانية الممارسة الثورية على اهدار الامكانية بفعل جحافل الفوضى المجرمة ومغتصبي معاني الثورة وتشويش اذناب الاستعمار وخدم القواعد العسكرية الأجنبية وبهلوانيات التنظير الفضائي المنتشي بالدم العربي .