كَم تمنّيت لو كان لي صَوت يُسعفني للغناء. حينما كُنت طفلاً كُنت أحفظ كلمات الأغاني وألحانها بتصرّف المُغنّي ومقاطع العزف المُنفَرِد "الصولوهات" المُختلفة داخل الأغنيّة، وكُنت أتمنّى لو كان لي صوتٌ يُساعدني لأن أعيد غناء كُل تلك الأغنيات التي أحببتها وحفظتها عن ظهر قلب، ولكن القدر لم يعطني تلك القدرة، ورغم ذلك لم أكف عن الغناء إلى يومنا هذا. سَمِعت أغنيات زياد الرحباني التي ألّفها ولحّنها ووزّعها وتم غنائها بصوت "جوزيف صقر"، والذي تماهى تماماً مع المادة الخام للإبداع والمضمون الفكري والفنّي لأعمال زياد إلى درجة أن نسبة كبيرة من المستمعين تكاد تجزم بأن من يغنّي "بلا ولا شي" هو "زياد الرحباني" ولا أحد سواه، ولكن بسماع صوت زياد خلال تسجيلات التحضير مع السيّدة فيروز أو في حفلاته الموسيقيّة سنجد أن هذا الكائن متعدد المواهب، والذي يمثّل إحدى قمم صناعة الموسيقى في تاريخ الوطن العربي، لا يتمتّع بتلك المواصفات المتعارف عليها كمُطرب، ولم يدّع الرجل يوماً أنه مُطرب. ولو تطرّقنا إلى تلك القضيّة بمفردها لذكرنا أسماء لعمالقة من صنّاع الفن والأغنية ربما على رأسهم الشيخ "زكريّا أحمد" مُبدع لحن "عن العشّاق" و"الورد جميل"، بالإضافة إلى الأستاذ "محمد القصبجي" أحد أهم ملحّني القرن العشرين وأحد عباقرة تاريخ الموسيقى. وبمرور الوقت تيقّنت بأن القضيّة ليست في الصوت أبداً، بل إن الصوت هنا هو آخر عنصر نبحث عنه حينما نتحدّث عن المشروع الفنّي بمعناه الأشمل، وهُنا نظرت إلى نصف الكوب الممتلئ، فعلى الأقل أستطيع أن أمسك بالقلم لأكتب الكلمات وألقيها بصوتي وإحساسي على المستمعين وقد أستطيع أن أخدعهم من وقت إلى آخر وأتسلل إلى "كورَس" غنائي في خلفيّة أغنيّة من كلماتي أو أطلق لحنجرتي العنان للغناء داخل ميدان التحرير أثناء الثورة حيث لن يمنعني أحد ولن يمتعض أحد من صوتي. ما أريد قولُه فقط هو أنه بالأمس قالت الفنّانة الفلسطينيّة "ريم بنّا" صوتها الذي نعرفه قد توقّف عن الغناء الآن، كما أضافت أن هذا التوقّف قد يكون للأبد نتيجة لحدوث شلل في الوتر الأيسر للحنجرة، أي أنها تريد إخبارنا بأن صوتها حينما يعود قد يكون متغيّرا، لكنّها لا تريد أن تعدنا بأنه سوف يعود. السؤال البديهي هُنا هو: "ما هو صوتك الذي نعرفه يا ريم؟" أو لننزع أداة النداء عن السؤال لنقول: "وما هو صوتك الذي نعرفه ريم؟" أتقصدين النبرة أم الطبقة؟ أتقصدين الفكرة أم الخامة؟ المحتوى أم الغُلاف؟ إن كنتِ تقصدين من كُل تلك الكلمات أن خامة صوتك ستتغيّر فليطمئن قلبك، فجمهورك عزيزتي ليس مهموماً بطبقة صوتك. جماهيرك هم هؤلاء البشَر الذين كانوا يتمنّون منذ الصغر أن تسعفهم حناجرهم لغناء ما يشعرون به يجول بصدورهم، ولم يهوّن عليهم الأمر سوى هؤلاء العمالقة الذين ذكرتهم قبل سطور معدودة، جمهورك يا ريم هم تِلك الأصوات التي تسمعينها أثناء وقوفك على المسرح يرددون معكِ كلمات الأغنية التي يحفظونها، ويقولها كل منهم بطريقته وطبقاً لمساحة صوته، والتي في الغالب تكون ضيّقة جداً، ولكن آذانهم تستطيع تمييز اللحن والموسيقى وقلوبهم تستطيع مع عقولهم أن تفكك اللفظ وتشعر به وتفطنه. لو كانت مخاوفك تنحصر في ذلك الأمر فلا داعي للقلق يا ريم، فلتكملي تدريباتك ولا تنشغلي بأي شيء سوى أن تعودي عودة قويّة تستطيعي أن تبرري لنا بها انتظارنا لكِ، ونحن في انتظار "ريم بنّا" بأي خامة صوتيّة، فنحن لسنا مُحكّمي برنامج "ذا فويس" ولسنا بصدد تقييم خامة صوتك. فلا داعي لأن نطيل الانتظار، خاصة جمهورك المصري، وأنا على وجه التحديد أتوق لتنفيذ ما اتفقنا عليه سويّاً لتقدّمي أول أغنياتك بالعامّية المصريّة ولتكن أوّل ما أكتُب لصديقتي "ريم" ذات الوتر الصوتي المناضل والقلب الفلسطيني الشجاع، والأغنية الجميلة التي لا تنتهي.