الحكم العسكري في مصر، المصنوع في البلاط الملكي السعودي، يحسم الصراع التاريخي بين مصر والسعودية بتحويل مصر إلى تابع خانع للمملكة الوهابية. نعم كان هناك ، وما زاال، صراع تاريخي مستعر بين مملكة آل سعود ومصر. الصراع في الأساس كان ثقافيا حضاريا. فمصر دوما شكلت قوة شعبية وتاريخية ضاربة في مجالات الفكر والإبداع الفني والأدبي التي تنزع بالطبيعة إلى الحرية والتقدم، بينما مثلت أسرة آل سعود قوة رجعية نازعة إلى التخلف والاستبداد وقهر الناس بتبنيها لتأويل محمد بن عبد الوهاب المتشدد والمُعسّر لدين الرحمة إلى حد منع رخص الله التي أحلها لعباده و أمرهم أن يؤتوها، وعملت على نشره بحد السيف من قفار نجد البلقع الجرداء، في تكوين ما يسمى الآن المملكة السعودية. هذا الصراع الثقافي الحضاري أخذ طابعا عسكريا متجددا منذ مطالع القرن الماضي حين أرسل محمد على حاكم مصر جيوشه لمحاربة حركة محمد بن عبد الوهاب. وتجدد الصراع العسكري مرة أخرى حين أيد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إسقاط الإمامة العتيدة في الرجعية والتسلط والمساهمة في بناء الحكم الجمهوري في اليمن، تلك البلد التي تعتبرها السعودية ضمن مجالها الحيوي وخاصرتها الضعيفة، والتي سعت دوما لأن تستبد بها وبأهلها. وكان لابد أن تحارب السعودية جيش مصر في حرب اليمن المعروفة في ستينيات القرن الماضي، وانتهت إلى طلب العون من الولاياتالمتحدة و إسرائيل، قبل أن يسحب عبد الناصر الجيش المصري. لم تكتف السعودية بذلك، وإن تجاوزت الحرب المباشرة إلى الوقيعة بمصر، مستعينة بثروتها النفطية الهائلة، لدى أعداء مصر والشعب العربي المتمثلين في المشروع الصهيوني في المنطقة العربية، بريادة وحماية الولاياتالمتحدة؛ لشن الحروب على قوى التحرر العرب التي تهدد مشروعها الظلامي. فقد بات معروفا الآن أن العدوان الإسرائيلي على مصر وسوريا والأردن في 1967 قد شُن بتحريض مكتوب من ملك السعودية حينئ للرئيس الأمريكي. من هذا التاريخ الصراعي يمكن أن نفهم العداء المستحكم الذي أضمرته المملكة السعودية للمد التحرري العربي، الذي بدأ يجتاح الوطن العربي في نهايات العام 2010 والذي يقوّض، إن نجح واكتمل، مشروعها التاريخي، بعد أن هدد خاصرتها في اليمن في مطالع 2011 فتدخلت لإجهاض الثورة الشعبية هناك بالإبقاء على الحكم العسكري التسلطي الفاسد ومنع مساءلة الطاغية الساقط. وكان لابد لتدخلها من أن يمتد إلى مصر، فنجاح الثورة الشعبية في مصر، بما لها من مكانة ريادية في الوطن العربي، يبقي جذوة المد التحرري العربي مشتعلة ويشكل تهديدا خطيرا لمشروع السعودية الرجعي. وقد وجدت مملكة الوهابية ضالتها في قيادات المؤسسة العسكرية من "جنرالات كامب ديفيد". المفارقة التاريخية الساخرة هي أن الحكم العسكري الذي برر وثوبه على السلطة بمنع انزلاق مصر إلى حكم ديني إنتهي بمصر العظيمة إلى تابع خنوع للمشروع الوهابي الظلامي! استدراك عن الوهابية وآل سعود لمن يريد الاستزادة قام مذهب محمد بن عبد الوهاب على المغالاة تعسيرا في الدين السمح، وتوسل الغلظة والفظاظة سبيلا للدعوة لإسلام التعسير والتشدد، فالعنف بدعوتهم حاضر وتاريخهم به مُخضّب. ومن يدرس تاريخ الحركة الوهابية يمكنه تفهم سر نشأتها، وكيف قامت ونمت إلى أن قُضي عليها كحركة توسعية. وفي كل هذا ما يتنافى مع أصول الدعوة في الإسلام القويم، وآداب الدعوة في صحيح الشريعة، القرآن والسنة الثابتة. فليس لغوا أن تبدأ كل سورة من آي الذكر الحكيم بالبسملة: "بسم الله الرحمن الرحيم"، التي تُتبع اسم الرب بصفتين هما صيغتا مبالغة من الرحمة. ويعتبر الباري عز وجل أن اللين في الدعوة فرع من رحمة الله للعالمين، دعاة ومدعوين، وينهى قطعا عن الفظاظة وغلظة القلب؛ لكونها مثبطات لغرض الدعوة: "فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم" (آل عمران، 3). ويؤكد عز من قائل على الحكمة والموعظة الحسنة طريقا للدعوة: "ادعُ إِلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربّك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين" (النحل، 125). وفي الحديث الصحيح" : الله رفيق يحب الرفق, وإن الله يعطي على الرفق مالا يعطي على العنف. ومع ذلك فقد نمت الحركة الوهابية بحد السيف وبمناصرة أمراء "آل سعود" لها وبالتنكيل بالقبائل التي لا تدين لها، وبلغت محاولتها في نشر الدعوة بالعنف أن زحفت على كربلاء في العام 1801، واستولت عليها في مذبحة نكراء، وهدمت مسجد الإمام الحسين فيها. ولم تخمد الحركة إلا بعد أن جرّد عليها محمد على باشا والي مصر، بحثٍ من السلطنة العثمانية وقتها، حملة حربية ضخمة استمرت ثمان سنوات فيما عرف بالحرب الوهابية، تتالي على قيادتها ابنيه طوسون باشا وابراهيم باشا حتى استسلمت آخر معاقلهم في العام 1818 وقتل قادتهم (عبد الرحمن الرافعي، عصر محمد على). وهكذا قضت المشيئة فمن عاش بالسيف مات به.