د. نادر فرجانى وبعد ذلك استفاد تيار الإسلام السياسي بكامله من دعم مالي ضخم، غالبا من الخليج وشبه الجزيرة العربية، مكّنه من تقديم رشي انتخابية معتبرة لقاعدة انتخابية يمكن أن تقع فريسة لهذا الصنف من الإغواء. ناهيك عن الإرهاب الإعلامي الزاعق بأن التصويت للإسلام السياسي يُقرّب من الله ومن دخول الجنة، والتصويت لغيرهم، سيما العلمانين والعياذ بالله، يوقع في الكفر. وظهرت هذه التوليفة الخبيثة في حالة مصر جلية في استفتاء 30 مارس 2011 الذي استحدث التعديلات الدستورية التي ابتدعت مسار التحول السياسي المعوّج القاضي بإجراء الانتخابات النيابية قبل وضع الدستور والذي فُسَّر علي نطاق واسع علي أن الغرض الأساس منه هو تمكين تيار الإسلام السياسي من اقتناص السلطتين التشريعية والتنفيذية بينما توفر الحكم العسكري علي ملاحقة وعقاب القوي الثورية وحتي إفسادها إعاقة لها عن تكوين تنظيماتها السياسية التي قد تنافس في الانتخابات القادمة. وخلال هذا الإرهاب الإعلامي ظن كثير من البسطاء الذين صوتوا بنعم في هذا الاستفتاء أنهم صوتوا للموافقة علي ابقاء المادة الثانية من الدستور التي تنص علي أن مبادئ الشريعة هي أساس التشريع، علي الرغم من أن المادة لم تكن مطروحة في الاستفتاء أصلا. لكل ذلك لم يكن غريبا أن حققت تيارات الإسلام السياسي الانتصار المدوي في الانتخابات النيابية في مصر وتونس، لكن المفاجأة كانت في الظهور الأقوي من المتوقع للفصائل السلفية المتشددة مما جعلها شريكا يُهاب جانبه للفصائل الأقل تشددا التي تصدرت المشهد السياسي. وقد استبشر البعض بهذا التطور علي أساس أن السلفيين وإن كانوا غُشما إلا أنهم ينتظر أن يكونوا بسبب غيابهم عن الساحة السياسية طويلا وشدة تمسكهم بتقاليد السلف الصالح أكثر استقامة من الفصائل الأقل تشددا التي اشتهرت، خاصة في مصر، في ممارساتها السياسية بالمراوغة والخداع للفوز بأكبر المغانم السياسية. وقد تأكد هذا في حالة مصر في تجربة الانتخابات النيابية والرئاسية الأولي بعد الثورة فعلي حين انغمست جماعة الإخوان في المراوغة والخداع المعتادين اتسم السلفيون بالمقارنة بقدر من الاستقامة الظاهرية. ولكن تهاوي وهم الصلاح الأخلاقي للسلفيين في مصر بسلسلة من الفضائح الأخلاقية طالت أحد مرشحيهم للرئاسة وبعض نوابهم في المجلس النيابي. ورويدا ورويدا تبين أنهم في شئون السياسة، المفسدة بالطبيعة، لا يختلفون كثيرا عنن زملائهم في التيار، وإن ظلوا أقل مراوغة وأبدي تشددا لا سيما في الجوانب المتصلة بالعفة الشكلية والحدود الشرعية والدعوة لها والعمل علي فرضها ولو بالغلظة والعنف. ويجب ألا ننسي أن تنافسا أصيلا يعكر العلاقة بين الفصيلين، السلفي والإخواني، يدور علي ساحة وجدان بسطاء الشعب من منطلق ادعاء كل منهما أنه الأمين الحقيقي علي أصول الإسلام وتقاليد السلف الصالح. وقد يدعي الفصيل السلفي زورا أنه لم يُجرّب في الحكم رغم أنه حاضر بقوة في تشكيل السلطة وفي حسابات رأسها الإخواني. ويستخلص من استقراء الأحداث أن استراتيجية الفصيل السلفي في هذه المبارزة مستمدة من تاريخ مؤسسه محمد بن عبد الوهاب، أي المغالاة في التشدد تعسيرا في الدين السمح وتضييقا علي الحريات، وإخضاعا للنساء اللائي يشكل قمعهن المختلط بشهوة الاستمتاع بهن، ولو كن أطفالا، في آن هاجسا يصل حد الهوس، وتوسل الغلظة والفظاظة سبيلا للدعوة لإسلام التعسير والتشدد، وإن لم يكف فالعنف حاضر وتاريخهم به مُخضّب. وهكذا نجد في مصر وتونس كليهما أن الفصيل السلفي المتشدد ينازع الفصيل الأقل تشددا من تيار الإسلام السياسي القائم علي رأس السلطة حاليا علي ساحة تقييد الحريات الشخصية والمدنية، خاصة للنساء، ولا يترفع عن استخدام العنف في الخصومة السياسية ما أسفر عن قتلي وجرحي بين ابناء الوطن. وفي حالة مصر، اكتسي التنافس بعدا غاية في الخطورة قوامه منازعة السلطة في السيطرة علي سيناء ولو باقتراف جرائم إرهابية بالعنف المسلح ما يثير مخاوف إقامة إمارة إسلامية متشددة في شبه الجزيرة قد تمهد لانفصالها ويثير احتمالات إدخالها في ترتيبات إقليمية مشبوهة لحل مشكلة قطاع غزة لإسرائيل علي حساب مصر. وحيث تنفع الذكري، فقد نشأت الحركة الوهابية بقيادة محمد بن عبد الوهاب في "الدرعية" في قفار نجد في وسط شبه الجزيرة العربية الأجرد في منتصف القرن الثامن عشر، وكان زعيمها حنبلي المذهب يميل إلي المغالاة في الشدة في التعاليم الدينية ولا يأخذ بالرخص التي أحل الله. وفي كل هذا ما يتنافي مع أصول الدعوة في الإسلام القويم، وآداب الدعوة في صحيح الشريعة، القرآن والسنة الثابتة. فليس لغوا أن تبدأ كل سورة من آي الذكر الحكيم بالبسملة: بسم الله الرحمن الرحيم، التي تتبع اسم الرب بصفتين هما صيغتا مبالغة من الرحمة. ويعتبر الباري عز وجل أن اللين في الدعوة فرع من رحمة الله للعالمين، دعاة ومدعوين، وينهي قطعا عن الفظاظة وغلظة القلب لكونها مثبطات لغرض الدعوة: "فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم" (آل عمران، 3). ويؤكد عز من قائل علي الحكمة والموعظة الحسنة طريقا للدعوة: "ادعُ إِلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربّك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين" (النحل، 125). ويشدد الذكر الحكيم علي اليسر في القول: "فقل لهما قولا ميسورا" (الإسراء، 17). وفي النهاية، فإن العزيز الحكيم يشدّد بوجه عام علي أن: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" (البقرة، 2). وفي الحديث الصحيح" : إن الله رفيق يحب الرفق, وإن الله يعطي علي الرفق مالا يعطي علي العنف . ومع ذلك فقد نمت الحركة الوهابية بمناصرة أمراء "آل سعود" لها وبالتنكيل بالقبائل التي لا تدين لها، وبلغت محاولتها نشر الدعوة بالعنف أن زحفت علي كربلاء في العام 1801 واستولت عليها في مذبحة نكراء وهدمت مسجد الإمام الحسين فيها. ولم تخمد الحركة إلا بعد أن جرّد عليها محمد علي باشا والي مصر، بحثٍ من تركيا، حملة حربية ضخمة استمرت ثمان سنوات فيما عرف بالحرب الوهابية، تتالي علي قيادتها ابنيه طوسون باشا وابراهيم باشا حتي استسلمت آخر معاقلهم في العام 1818 وقتل قادتهم (عبد الرحمن الرافعي، عصر محمد علي). وهكذا قضت المشيئة فمن عاش بالسيف مات به. تأمل هول المأساة، بعد قرابة ثلاثة قرون من التقدم البشري المتسارع، علي البلدان العربية أن تواجه أتباع حركة دينية رجعية متشددة، بأساليب الوهابية الفجة ذاتها في عصر التراسل الإلكتروني والسفر في الفضاء. ولا غرابة أن بعض كبار متشددي السلف يبدون وكأنهم من أهل الكهف، هيئة وقولا! بناء علي ما تقدم، يقدّر الكاتب أن هذه الاستراتيجية السلفية وعواقبها الكارثية ستنخر في شعبية الفصيل السلفي المتشدد، وتيار الإسلام السياسي جميعه، لاسيما بين الصفوة، وعلي الأغلب بين عقلاء العامة.