التاريخ يحفظ أن عامر خطط للانقلاب على صديقه ناصر بجلالة قدره المصريون قضوا على محاولة الوهابية لإخضاعهم وإعادتهم ل "قفار نجد" مطلوب ألا يتهاون الناس ويسلموا ثورتهم – مرة ثالثة – لمن يسرقها أو يتاجر بها في النهاية، "أسقط في ايدي المماليك، ... فلم يجدوا سبيلا للنجاة سوى الفرار من القاهرة بعد أن قتِل منهم من قتِل، وكان أول الفارين عثمان بك البرديسي وهو كان من قبل يشمخ بأنفه ويهدد ويتوعد، ومع أن بيته كان أشبه بقلعة تحيط بها الأبراج المحصنة وفيها الجنود وآلات الحرب والقتال، إلا أنه لاذ بالفرار. وفر كذلك ابراهيم بك ، وتبعهما جنود المماليك. ... وكانوا في فرارهم من القاهرة على غير الشجاعة التي كانوا يتفاخرون بها في أيام الرخاء، وفي ذلك يقول الجبرتي: "غلب عليهم الخوف والحرص على الحياة والجبن، وخابت فيهم الظنون، وذهبت نفختهم في الفارغ، وجازاهم الله ببغيهم وظلمهم وغرورهم، ونزل بهم ما نزل، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله". قُتل من المماليك واجنادهم في ذلك اليوم نحو ثلثمائة وخمسين، وارتحل الباقون منهم عن المدينة، وانتفض الشعب في رشيد ودمياط وسائر العواصم على الحكام المماليك، فهربوا إلى الصعيد، ودالت دولتهم، وانقضى حكمهم من البلاد، ولم تقم لهم بعد ذلك قائمة." ثم كان أن "وصل خورشيد باشا إلى بولاق في أواخر مارس 1804، وهو خامس من تقلد ولاية مصر في نحو سنتين. ... وفي أول مايو 1805 اعتدى الجنود الدلاة (طائفة من الجنود الترك المشتهرين بالهمجية) على أهالي مصر القديمة وأخرجوهم من بيوتهم ونهبوا مساكنهم وامتعتهم قتلوا بعض الأهالي الآمنين، فعظم الهياج في مصر القديمة وحضر جميع سكانها رجالا ونساء إلى جهة الجامع الأزهر، وانتشر خبر الاعتداء والهياج بسرعة البرق في أحياء المدينة. فاجتمع العلماء بالأزهر واضربوا عن إلقاء الدروس، وأقفلت دكاكين المدينة وأسواقها، واحتشدت الجماهير في الشوارع والميادين يضجون ويصخبون، فأدرك الوالي خطر الحالة، وأرسل وكيله صحبة رئيس الانكشارية (المحافظ) إلى الأزهر لمقابلة العلماء ومفاوضتهم لوقف الهياج، فلم يجدهم بالأزهر. لكن الجماهير لم تكد تبصره حتى انهالوا عليه رجما بالأحجار. ورفض العلماء أن يتدخلوا لإيقاف الهياج وطلبوا جلاء الجنود الدلاة عن المدينة، وكانت إجابة الطلب صعبة التحقيق "، فتأزم الموقف واستمرت الثورة. وهكذا " قامت حركة شعبية قوية تناوئ سلطة الوالي التركي، كانت هذه الحركة قوامها الشعب وزعماؤه." "وعندما انبلج صبح يوم 12 مايو 1805 اجتمع زعماء الشعب واتفقوا رأيا على الذهاب إلى المحكمة الكبرى (بيت القاضي) لاختصام الوالي وإصدار قراراتهم في مجلس الشرع. ولم تكد تعلم الجماهير بما استقر عليه رأي الزعماء حتى احتشدت جموعهم واتجهت إلى دار المحكمة واحتشدت بفنائها وحولها، فكان اجتماع هذا البحر الزاخر من الخلائق هو الثورة بعينها، وظهرت روح الشعب قوية ناقمة على الوالي وعلى الحكم التركي، وكانوا يصيحون "يارب يامتجلي، اهلك العثمللي". وخلع وكلاء الشعب من العلماء ونقباء الصناع خورشيد باشا، بدار المحكمة والجماهير محتشدة حولها في13 مايو 1805. ثالثا: شعب مصر يزيح اليمين المتأسلم بدعم من المؤسسة العسكرية أما عن الشبح الذي نزعم أن البعض حاول إخضاع شعب مصر لتهويماته المتشددة والمتعسفة بدين الرحمة والمحبة تحت حكم اليمين المتأسلم فنقصد مؤسس الوهابية محمد بن عبد الوهاب. وقد قام مذهبه على المغالاة في التشدد تعسيرا في الدين السمح وتوسل الغلظة والفظاظة سبيلا للدعوة لإسلام التعسير والتشدد، وإن لم يكف كل ذلك فالعنف حاضر وتاريخهم به مُخضّب. ومن يدرس تاريخ الحركة يمكنه تفهم سر نشأتها حيث قامت وكيف نمت إلى أن قُضي عليها كحركة توسعية. إلا أن الشبح لم يهزم تماما، وما فتئ يطل علينا في خلفية همج جدد كل حين، آخرهم ما يسمى " داعش". نشأت الحركة الوهابية بقيادة محمد بن عبد الوهاب في "الدرعية" في قفار نجد في وسط شبه الجزيرة العربية الأجرد في منتصف القرن الثامن عشر، وكان زعيمها حنبلي المذهب يميل إلى المغالاة في الشدة في التعاليم الدينية ولا يأخذ بالرخص التي أحل الله لعباده المؤمنين. وفي كل هذا ما يتنافى مع أصول الدعوة في الإسلام القويم، وآداب الدعوة في صحيح الشريعة، القرآن والسنة الثابتة. فليس لغوا أن تبدأ كل سورة من آي الذكر الحكيم بالبسملة: بسم الله الرحمن الرحيم، التي تتبع اسم الرب بصفتين هما صيغتا مبالغة من الرحمة. ويعتبر الباري عز وجل أن اللين في الدعوة فرع من رحمة الله للعالمين، دعاة ومدعوين، وينهى قطعا عن الفظاظة وغلظة القلب لكونها مثبطات لغرض الدعوة: "فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم" (آل عمران، 3). ويؤكد عز من قائل على الحكمة والموعظة الحسنة طريقا للدعوة: "ادعُ إِلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربّك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين" (النحل، 125). ويشدد الذكر الحكيم على اليسر في القول: "فقل لهما قولا ميسورا" (الإسراء، 17). وفي النهاية، فإن العزيز الحكيم يشدّد بوجه عام على أن: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" (البقرة، 185). وفي الحديث الصحيح" : إن الله رفيق يحب الرفق, وإن الله يعطي على الرفق مالا يعطي على العنف ". ومع ذلك فقد نمت الحركة الوهابية بحد السيف وبمناصرة أمراء "آل سعود" لها وبالتنكيل بالقبائل التي لا تدين لها، وبلغت محاولتها نشر الدعوة بالعنف أن زحفت على كربلاء في العام 1801 واستولت عليها في مذبحة نكراء وهدمت مسجد الإمام الحسين فيها. ولم تخمد الحركة إلا بعد أن جرّد عليها محمد على باشا والي مصر، بحثٍ من السلطنة العثمانية وقتها، حملة حربية ضخمة استمرت ثمان سنوات فيما عرف بالحرب الوهابية، تتالي على قيادتها ابنيه طوسون باشا وابراهيم باشا حتى استسلمت آخر معاقلهم في العام 1818 وقتل قادتهم (عبد الرحمن الرافعي، عصر محمد على). وهكذا قضت المشيئة فمن عاش بالسيف مات به. ***** وقد قدّر الله أن يقضي شعب مصر على محاولة الوهابية إخضاع مصر مرة ثانية. فالشعب الذي قضى على الحملة الفرنسية حاملة لواء العلم والحضارة في وقتها بقيادة شخصية تاريخية دانت لها أوربا، لم يكن ليستكين لإعادته لتشدد قفار نجد منذ قرنين، بعد حقبة من التطور الإنساني المذهل والمتسارع. وقد وجد الشعب المصري طريقه لإسقاط حكم اليمين المتأسلم. ولكن لشديد الأسف مرة أخرى أسلم قياد الموجة الثانية الكبيرة من ثورته، يونية 2013، المؤسسة العسكرية. غير أن المؤسسة العسكرية، على الرغم من وعود أولية مبشرة، خانت الأمانة، وكررت أخطاء اليمين المتأسلم وخطاياه جميعا، بشكل أفدح وأشد ظلما، حتى أعادت النظام الذي قامت الثورة الشعبية لإسقاطه بحذافيره وسامت الشعب، خاصة النشطاء من الشبيبة، جميع صنوف القهر والإفقار المتعاظمين. رابعا: بدايات إسقاط النسخة الثانية من حكم الفساد والاستبداد المخابراتي إذن أفضى إسقاط حكم اليمين المتأسلم إلى ولاية ثانية المؤسسة العسكرية، أو على وجه التحديد، المخابرات العسكرية، في تحالف ما فتئ يتضح مع أجهزة مماثلة في المنطقة العربية وخارجها. منذ شهرين تقريبا نشرت مقالا بعنوان "الفرار من الكوليرا إلى الطاعون فحواه أن المؤسسة العسكرية تكرر تجربة حكم الإخوان بخطاياه جميعا، فقط لدرجة أفدح وبنتائج أبشع ". ويقيني أن سيبدع الشعب المصري طريقه للتغلب على محاولة الإخضاع الحالية هذه بالعبقرية الجمعية التاريخية التي اكتسبها عبر ألفيات سنين من إفشاله لمحاولات إخضاعه التي انتهت جميعا في ذمة التاريخ. فلم يبق من سيناريو إنهاء حكم اليمين المتأسلم إلا انقلاب وزير الدفاع أو المجلس الأعلى للقوات المسلحة على الرئيس الحاكم، وأظنه قادم على الرغم من إنتمائه للقوات المسلحة. ولا يظنن أحدا أن انتخاب الرئيس الحالي أو التقاليد العسكرية أو أعراف الأخوة في السلاح ستمنع هذا الحادث. فالتاريخ يحفظ أن عبد الحكيم عامر خطط للإنقلاب على رئيسه الأقرب له من أخيه، عبد الناصر بجلالة قدره ولقي حتفه لقاء فعلته. ومن باب أولى، فالرئيس الحاكم الآن إنقلب على رئيسيه وزير الدفاع ورئيس الأركان السابقين وتلقي مكافأة على ذلك من رئيس اليمين المتأسلم بترقيته استثنائيا، وعن غير استحقاق، مرتين ثم بتعيينه وزيرا للدفاع، فقط لكي ينقلب على الرئيس المنتخب الذي عينه في المنصب. ولم يكفه كل ذلك فبَذَر بذور الشقاق في شريحة قيادات القوات المسلحة قبل أن يتركها ليترشح للرئاسة. أما على الصعيد السياسي، فلا بد من رصد حركات الاحتجاج الشعبي المتزايدة والمتصاعدة، والتي تتوجها إحتجاجات قطاعات ضخمة ومتتالية من العمال طليعة النضال الوطني، كما حدث في نهايات عهد محمد حسني مبارك. في هذا إيذان تاريخي لا يخطؤه دارس حصيف لتاريخ شعب مصر. ومن المهم هنا ملاحظة أن الإضرابات والاعتصامات العمالية ترفع مطالب وطنية عامة وليس مجرد مطالب عمالية، هي الأخرى في صلب السياسة. والملحوظة الثانية هي أنه قد خاب دائما زعم من إدعى أن حركات الاحتجاج الشعبي ليست إلا حركات فئوية أو "اجتماعية" بلا تأثير سياسي. فالخبرة قبل الموجة الأولى من الثورة الشعبية العظيمة أن تكرار وتصاعد وتراكم حركات الاحتجاج الشعبي، لا سيما النضال العمالي، يخلق نقلة كيفية في وتيرة النضال الشعبي من أجل الحرية والعدل و الكرامة الإنسانية للجميع. ومن يقلل من أهمية الدعوة للإضراب العام في 25 يناير 2015، أن يتذكر ويتدبر في تاريخي 6 إبريل 2008 و 25 يناير 2011. في الأولى ديست صور الطاغية المخلوع بالنعال لأول مرة في تاريخه المزري، وفي الثانية خلع المجلس الأعلى للقوات المسلحة رئيسه السابق، ناهيك عن الإخراج البائس للقرار غير الدستوري بالتنحي وتكليف المجلس بالحكم. ختاما، ظني أنه قد دارت على الباغين الدوائر فعلا. ولا أستطيع مقاومة أن أنبه القارئ إلى أنني قد أقدمت على المخاطرة التنبؤية ذاتها قبل شهور قليلة من سقوط حكم محمد حسني ومبارك وحكم اليمين المتأسلم، كليهما. ولعل "الثالثة ثابتة" كما يقول المثل العامي الفصيح. فقط عسى ألا يتهاون الشعب ويسلم ثورته مرة أخرى لمن يسرقها ويتاجر بها. عسى ألا يفكر أحد للحظة أن يختار الشعب وزير الدفاع الحالي رئيسا مؤقتا ليسهر على إصلاح ما أفسد حكم المؤسسة العسكرية سابقا وتاليه حكم اليمين المتأسلم وتاليه أيضا حكم المخابرات الحربية الذين جلبوا على الوطن بالغ شقاء وكثير خراب، هو في طريق الإنقضاء لا محالة. فيما يأتي لا مناص من المجلس الرئاسي إن أردنا اكتمال الثورة الشعبية العظيمة. لا مناص هذه المرة، من استمرار وتصاعد الاحتجاج الشعبي حتى يتشكل مجلس رئاسي مدني يتولى الحكم لفترة إنتقالية. فينبغي عدم إنهاء موجة الانتفاض الشعبي إلا بتشكيل مجلس رئاسي من المنتمين بالتاريخ والمواقف لغايات الثورة الشعبية من أجيال مختلفة وبحيث يضمن تمثيل جميع فئات الشعب لحكم فترة انتقالية طولها عامين تنتهي بانتتخابات رئاسية وتشريعية شريفة (أي خالية من تأثير المال السياسي، خاصة الأجنبي)، وحرة ونزيهة. وقد يدعي البعض، وبحق، أن الاتفاق على مجلس رئاسي بعد انتفاضة شعبية ليس أيضا بالأمر اليسير. ولكن ليس من استحالة. من ناحية تأخير ومعاناة بضع أيام ثمن زهيد بالمقارنة بالمخاطرة بإجهاض الثورة الشعبية. ومن الممكن من حيث المبدأ أن يتضمن أسلوب عمل المجلس إمكان الاتفاق على تعديل عضويته لضمان استمرار تمثيله لروح الثورة الشعبية وقواها. وبعد ذلك يعيّن المجلس الرئاسي حكومة انتقالية مؤقتة بمدة عامين، من ثوار أو مناصرين للثورة، شريطة ألا يزيد عمر المسئول عن خمسين عاما على أكثر تقدير، ما يستبعد حتما جيل الكاتب ومن يكبرونهم، من المناصب التنفيذية. ويكلف المجلس الرئاسي الحكومة بأن تشرف، تحت رقابة المجلس، على إنجاز الأهداف التالية. • تطهير وإعادة بناء أجهزة الأمن والقضاء لتحمي مسيرة وغايات الثورة الشعبية. • عقد محاكمات انتقالية ثورية عاجلة وناجزة، ولكن نزيهة وعادلة قدر الطاقة، لمن أفسدوا الحياة السياسية واقترفوا جرائم الفساد والنهب، وأوقعوا الشهداء والمصابين في أحداث الثورة الشعبية، مع مصادرة الثروات الحرام التي كونوها ووضعها في صندوق خاص، تحت الرقابة العمومية، لخدمة نيل غايات الثورة الشعبية. • ويلي ذلك بدء عملية الإصلاح القانوني والمؤسسي بوضع دستور جديد يضمن تحقيق غايات الثورة. يؤسس- من دون أي لبس- لدولة مدنية حديثة، لا دينية ولا عسكرية؛ ويضمن بلا مواربة الحقوق والحريات المفتاح (للرأي والتعبير والتنظيم في المجتمعين المدني والسياسي، بمجرد الإخطار للقضاء)، ويحظر الأحزاب الدينية؛ ويخضع جميع مؤسسات الدولة، خاصة المؤسسة العسكرية، لرقابة الشعب وممثليه ويقرر أسس مساءلتها أمامهم، ويؤسس لبناء مؤسسات الحكم الديمقراطي السليم بانتخابات شريفة، حرة ونزيهة، ولإقامة نسق وطني متكامل للنزاهة ومحاربة الفساد. • وينص الدستور، ويتوفر المجلس الرئاسي، على تشجيع إنشاء الأحزاب السياسية للشباب وللفئات المهمشة تحت الحكم التسلطي وتمويل نشاطها وحملاتها الانتخابية من صندوق الثورة. إن مقابلة التصور البسيط السابق بما جرى في مصر في السنوات الأربع الماضية يبين مدى انحراف المسار التاريخي الفعلي عن المثال، أساسا بسبب قوة وشراسة نظام الحكم التسلطي الفاسد الذي قامت الثورة الشعبية العظيمة لإسقاطه ولم تفلح بعد. ولكن الشعب والثورة سينتصران، لا محالة. هذه حتمية التاريخ والتي أثبتها الشعب المصري مرات عديدة عبر تاريخه الطويل. وليكن شعارنا جميعا أن "اكتمال الثورة الشعبية العظيمة ممكن رغم الصعاب" من العدد المطبوع من العدد المطبوع