عنوان المقال مختار بعناية. المصالحة الوطنية مطلوبة بل واجبة. ولكن ليس مع اليمين المتأسلم الذي عندما سنحت له الفرصة لحكم مصر لم يتورع عن إرتكاب جرائم ضد الثورة الشعبية العظيمة وأسفر عن أنه لا يتورع حتى عن مخالفة أصول قويم الإسلام خدمة لمآربه السياسية الدنيوية الدنيئة. تتردد هذه الأيام نغمة مفادها: "الآن وقد خبرتم المآسي التي يجرها الحكم العسكري مجددا، أما كان أصلح لو تركتمونا نحكم ونصحح أخطاؤنا من خلال الحكم؟". وفي بعض المقولة صحة، فمصر كانت فعلا تحت الحكم العسكري لعدة عقود قبل إندلاع الموجة الأولى من الثورة الشعبية العظيمة في يناير 2011. وليس القصد مجردأن من يحكم كان من أصول عسكرية ولو ارتدى بذلة مدنية وأنه كان يعتبر القوات المسلحة هي القاعدة الصلية لشرعية حكمه باعتبارها خط الدفاع الأخير للقهر بالعنف المنظم المحتكر من الدولة تحت الحكم التسلطي الفاسد، وقد استدعاها الحاكم العسكري الأصل لمواجهة إنتفاضات شعبية أكثر من مرة. ليس هذا فقط، فمصر تحت حالة الطوارئ التي حكم بها الطاغية المخلوع محمد حسني مبارك كان لها حاكم عسكري بنص القانون، هورئيس الجمهورية، وكان ينيب بعض اخنصاصاته لرئيس مجلس الوزراء. ومن ثم، فإن مصر كانت قانونا تحت حكم عسكري طوال حكم الطاغية المخلوع. ولكن لا يمكن أن تقوم مصالحة وطنية حقيقية، في ظل مرجعية إسلامية لقويم الإسلام، إن شملت من تورطوا في حكم اليمين المتأسلم. فليس بين من خكموا مصر منذ قبل إندلاع الثورة الشعبية في يناير 2011، من أطهار ابرار. طلهم ارتكبوا جرائم ضد الثورة والثوار. ومن ثم فإن انتصار الثورة الشعبية يوجب أن يقدموا جميعا لمحاكمات ثورية عاجلة وناجزة. ولا يعني هذا تسليما بصحة المحاكمات الجارية الآن لبعض قيادات هذا الحكم. والتي نعلم يقينا أنها تفتقر إلى ضمانات العدالة والمحاكمة المنصفة. أعلم أنه بين صفوف تيار الإسلام السياسي شخوص أنقياء أتقياء وأبرار لم يتورطوا في جرائم حكم اليمين المتأسلم، ونأوا بأنفسهم عن اقتراف خطايا الحكم التسلطي الفاسد، وأعتز بصداقة بعضهم. ولكن القصد من هذا المقال الدعوة إلى التصالح مع المرجعية الإسلامية للسياسة والمجتمع في مصر وليس مع شخوص اليمين المتأسلم، خاصة أولئك الذين تورطوا في آثام الحكم التسلطي الفاسد عندما سنحت لهم الفرصة، كما يدعو بعض السذج أو المغرضين من هذا التيار الضالج هناك في نظري أساسان للمصالحة التي تحقق صالح الشعب والوطن ويقدر لها أن تدوم، مع المرجعية الإسلامية للسياسة والمجتمع في مصر. الأول عملي أشرت له في الفقرة السابقة وقد نتخذ له معيارا إجرائيا هو قصر العمل السياسي وفق المرجعية الإسلامية لمن لم يتورطوا في حكم اليمين المتأسلم مع إقرار تشحيع خاص لأجيال الشباب الأصغر من أربعبن عاما لاسيما في نتشكيل أحزاب سياسية لا دينية الطابع. والأساس الثاني، والأهم في نظري، هو الأساس الفكري الذي يتعين أن تقوم عليه هذ المرجعية، وهو موضوع القسم الثاني من هذا المقال، وأقصد الفهم السليم لصحيح الإسلام والذي أوقن أنه يعلي من شأن الشعب في التاريخ والسياسة. يتطلب الحرص على نيل غايات الثورة الشعبية العظيمة في مصر حظر قيام أحزاب في مصر على أساس ديني. وللتأكيد، أقصد أحزاب تهدف إلى إقامة دولة يغلب عليها طابع السلطة الدينية، وحكم المجتمع بنسخة من الشريعة الإسلامية المتشددة والمعسّرة على الخلق، في معصية صريحة للخالق عز وجل الذي "يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته" وفق الحديث النبوي الشريف. ويتعين أن يشتمل حظر قيام الأحزاب على أساس ديني، في الدستور والقانون، على ضمانات لعدم الالتفاف على هذا المسعى بإدعاء "المرجعية الإسلامية" كستار دخان يعمي عن الغرض الأساس. فلقد عانينا من مثل هذه التشكيلات الحزبية التي قامت بالمخالفة لصحيح القانون في حقبة سابقة من خلال التخفي وراء ستار أسموه "مرجعية إسلامية" خداعا ومرواغة. ولدي سببان رئيسيان لرفض هذه التشكيلات الحزبية. الأول سياسي مبدئي، فمثل هذه الأحزاب تناقض غايات الثورة الشعبية العظيمة في إقامة دولة عصرية ومدنية حديثة تساوي بين مواطنيها وتضمن الحرية والعدل والكرامة الإنسانية للجميع على أرض مصر. والسبب الثاني عملي، فخبرتنا مع سلطة اليمين المتأسلم أظهرت بما لا يقبل الشك أن مثل هذه الأحزاب اتحدت على هدف إجهاض الموجة الأولى من الثورة الشعبية، يناير 2011، لأغراض لا تمت للثورة أو الوطنية بصلة. ولولا اليقظة الثورية لشعب مصر العظيم التي تجلت في الموجة الثانية الكبيرة من الثورة، يونية 2013، بمدد من قواته المسلحة، لكنا خسرنا الثورة والوطن والإسلام جميعا خدمة لأغراض مخططات دولية لاتمت للثورة أو الوطنية المصرية بأي صلة. ومن اسف أن تبين أن حكم المؤسسة العسكرية للمرة الثانية منذ إندلاع الموجةالأولى منذ الثورة الشعبية قد كرر جميع خطاي حكم اليمين المتأسلم، بصورة افدح ، من حيث انه أعاد الحكم التسلطي الذي قامت الثورة الشعبية العظيمة لإسقاطه بنى ومؤسسات وأساليب حكم وإدارة لا تنتج إلا القهر والإفقار لعامة الشعب، بل وشخوص نظام الحكم هذا أنفسهم، الذي قامت الثورة الشعبية لإبادته ولم تفلح بعد. لقد أظهرت هذه الأحزاب متحالفة أنها ليست إلا تيار سياسي يميني يلتحف زورا بالإسلام، وكشف عندما قفز على السلطة عن وجه فاشي مقيت. وبالنسبة للإسلام فقد كشرت هذه الكيانات الحزبية انيابها الفقهية الشرسة عن نسخة متخلفة من الإسلام تزيد جهالة وتشددا على تشدد محمد بن الوهاب مؤسس الحركة الوهابية منذ قرنين في قفار نجد الجرداء، وهو كان أعتى تشددا من شيخه ابن تيمية (القرن السابع الهجري) الذي فاق إمامه ابن حنبل (نهايات القرن الأول للهجرة- بدايات القرن الثاني) في التشدد. هم أرادوا إذن حكم مصر دولة ومجتمعا في بدايات القرن الحادي والعشرين بفقه من الدرجة الرابعة في التشدد المغلف بجهالة وفظاظة من كانوا يعيشون في هذا العصر وتلك البيئة القفر بينما هم ينتمون، فكرا وهيئة، إلى كهوف وجحور في الزمن والمعرفة. والأدهى أن ردوا على حق الشعب في إسقاط حكمهم الإقصائي المستبد والخائن للثورة، بترويع الأبرياء وبالإرهاب المسلح الخسيسس. وفي صحيح البخاري قول الرسول الكريم "من حمل علينا السلاح فليس منا". هذه الخبرة الأليمة تعني قطعا استبعاد من حمل السلاح على الشعب من الحياة السياسية والعامة في مصر، بعد محاسبتهم بعدل ونزاهة يضمنان حقوقهم الإنسانية التي حرمّوا علاى أشقائهم في الوطن. ولكن هذا الموقف لا يعني أن تغيب المرجعية الإسلامية المستنيرة عن مستقبل السياسية وحركة المجتمع في مصر إن بقي بين أبناء مصر الأطهار من لم يتلوث بهذا الفهم الرجعي المتشدد والمعسّر للإسلام ولم يمارس العنف أويرفع السلاح على بني وطنه. فيقيني أن سيبقى الإسلام مكونا أصيلا للنسيج الوجداني والروحي لشعب مصر، ويتعين أن يكون لمن يعتنقونه، بفهم صحيح يرعى مقاصد الخالق عز وجل، مكان في المجتمع والسياسة في مصر. وإن كان لهم في رسول الله وصحبه قدوة حسنة كما يدعون، فلينصرفوا إلى الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وليفهموا أن ليس عليهم إلا البلاغ، وليس لهم ان يسعوا للسيطرة على الناس. ومن الأخطاء الشائعة أن راج، خطأ، تسمية المتشددين المتعنتين بالأصوليين، وهم أبعد ما يكون عن أصول قويم الإسلام. ولذلك يقوم، بسبب انتشار أفكار اليمين المتأسلم وممارساته المتخلفة بين فصيل من الشعب، تحدٍ فكري يكمن في التوصل لفهم لقويم الإسلام يتسق مع منطق العصر الذي نعيش ويناصر غايات الثورة الشعبية العظيمة كمرجعية لمثل هذه النشاطات. وليس الأمر صعبا، فالإسلام نشأ ثوريا وتحرريا في المقام الأول. من العدد المطبوع من العدد المطبوع