هذا مقال رمزي لن يستعصي على القارئ الفطن تبين التناظر، الذي يصل أحيانا حد التطابق، وإسقاط الرموز على واقع مصر الراهن، وقد استقيت المقتطفات المختارة التالية من كتاب عبد الرحمن الرافعي عن تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر، الجزء الثاني. كان الشعب المصري تخلص من احتلال الحملة الفرنسية من خلال ثورتي القاهرة الأولي والثانية عامي 1798 و1800، وعاقب الفرنسيون الشعب عليهما بإجراءات انتقامية بشعة، وفي سياق تحالف الإنجليز والأتراك لطرد فرنسا من مصر، واستقر الحكم بعد جلاء الفرنسيين للمماليك، وفي مطالع العام 1804، تخلص عثمان بك البرديسي من منافسه وزميله القديم محمد بك الألفي، وأمن على سلطته في الحكم. الحالة في القاهرة كانت تزداد تفاقما بسبب تذمر الشعب من كثرة وقوع المظالم وإرهاقه بمختلف الضرائب والمغارم، وكان المماليك لا يدعون فرصة إلا ويفرضون على الناس غرامة أو ضريبة جديدة، فاشتد الضيق بالأهلين واستولى الذعر على الناس في القاهرة وازدحموا على شراء الغلال، فارتفعت أسعارها وشح الخبز في الأسواق واشتد الضيق بالفقراء وأواسط الناس، وهم السواد الأعظم من السكان، واجتمع إلى هذا الضيق اعتداء المماليك والجنود الألبانيين على ما بأيدي الناس من الأموال والغلال والمتاع. شكا الناس إلى كبار العلماء من ترادف هذا الاعتداء فطلبوا منع اعتداء العساكر على الناس.. وركب الأغا (المحافظ) والوالي (رئيس الشرطة) وأمامه جماعة من العسكر والمنادي ينادي بالأمن والأمان للرعية وأنه إذا وقع من الجند اعتداء أو نهب للناس أن يضربوهم وإن لم يقدروا عليهم فليأخذوهم إلى رؤسائهم، على أن مثل هذه الوعود والتنبيهات ذهبت عبثا، واستمر الجند والمماليك في اعتدائهم على الأهالي، وأخذ جو المدينة يكفهر منذرا بوقوع حوادث خطيرة. كانت خزانة الحكومة خالية من المال بسبب سوء الإدارة وتلف الأراضي الزراعية وتعاقب الفتن وما أدى إليه الظلم من انقباض أيدي الناس عن العمل. فكر البرديسي في ابتداع الوسائل للحصول على المال، ففرض على تجار القاهرة ضريبة جديدة، لكنه لم يحصل على المال الكافي لسد حاجة الجنود الذين كانوا يزدادون كل يوم ضجة وصخبا، فاعتزم البرديسي في شهر مارس 1804 أن يفرض ضريبة جديدة على جميع الأهالي بلا استثناء، ضربها على العقارات والبيوت، وكلف عمال الحكومة بأن يحصلوها من كل فرد من أفراد القاهرة من ملاك ومستأجرين، فبدأ الناس يتذمرون، وامتنع كثير من الناس عن دفع المطلوب منهم، فوقعت الملاحاة بينهم وبين عمال الحكومة، واشتد سخطهم وعلا صياحهم، واحتشدوا وجاهروا باستنكار هذه المظالم وامتناعهم عن دفع الضرائب، وامتنع كثير من التجار عن دفع ما يطلب منهم إما لكونهم أكثر احتياجا ممن دفعوا الضريبة أو أكثر شجاعة منهم، فاشتدت المناقشة وعلا الصخب، ثم لم يلبث الشعب أن اجتمع بأجمعه في الشوارع، واتجهوا إلى المساجد التي اتخذوها ملتقي لاجتماعاتهم، فسرعان ما غصت المساجد بجموع الشعب، وأثار اجتماعه في نفوس الجماهير روح الحماسة والشعور بالقوة والحق، وقبضت الجماهير في ساعة الغضب الأولى على بعض جباة الضرائب وقتلوهم، ونادى العلماء بإبطال الضريبة ورفعها، أما عثمان بك البرديسي فقد قابل هذه الثورة بالغطرسة والكبرياء، ونقم على المصريين قيامهم في وجهه وخروجهم على حكمه، وتوعدهم بالشر والنكال. ولكن في النهاية، أسقط في أيدي المماليك.. فلم يجدوا سبيلا للنجاة سوى الفرار من القاهرة بعد أن قتل منهم من قتل، وكان أول الفارين عثمان بك البرديسي وهو كان من قبل يشمخ بأنفه ويهدد ويتوعد، ومع أن بيته كان أشبه بقلعة تحيط بها الأبراج المحصنة وفيها الجنود وآلات الحرب والقتال، إلا أنه لاذ بالفرار. وفر كذلك إبراهيم بك، وتبعهما جنود المماليك.. قتل من المماليك وأجنادهم في ذلك اليوم نحو ثلاثمائة وخمسين، وارتحل الباقون منهم عن المدينة، وانتفض الشعب في رشيد ودمياط وسائر العواصم على الحكام المماليك، فهربوا إلى الصعيد، ودالت دولتهم، وانقضى حكمهم من البلاد، ولم تقم لهم بعد ذلك قائمة. ثم كان أن أوصل خورشيد باشا إلى بولاق في أواخر مارس 1804، وهو خامس من تقلد ولاية مصر في نحو سنتين.. وفي أول مايو 1805 اعتدى الجنود الدلاة (طائفة من الجنود الترك المشتهرين بالهمجية) على أهالي مصر القديمة وأخرجوهم من بيوتهم ونهبوا مساكنهم وامتعتهم قتلوا بعض الأهالي الآمنين، فعظم الهياج في مصر القديمة وحضر جميع سكانها إلى جهة الجامع الأزهر، وانتشر خبر الاعتداء والهياج بسرعة البرق في أحياء المدينة. فاجتمع العلماء بالأزهر وأضربوا عن إلقاء الدروس، وأقفلت دكاكين المدينة وأسواقها، واحتشدت الجماهير في الشوارع والميادين يضجون ويصخبون، فأدرك الوالي خطر الحالة، وأرسل وكيله صحبة رئيس الانكشارية (المحافظ) إلى الأزهر لمقابلة العلماء ومفاوضتهم لوقف الهياج، فلم يجدهم بالأزهر، لكن الجماهير لم تكد تبصره حتى انهالوا عليه رجما بالأحجار، ورفض العلماء أن يتدخلوا لإيقاف الهياج وطلبوا جلاء الجنود الدلاة عن المدينة، وكانت إجابة الطلب صعبة التحقيق، فتأزم الموقف واستمرت الثورة، وهكذا ا قامت حركة شعبية قوية تناوئ سلطة الوالي التركي، كانت هذه الحركة قوامها الشعب وزعماؤه. وعندما انبلج صبح يوم 12 مايو 1805 اجتمع زعماء الشعب واتفقوا رأيا على الذهاب إلى المحكمة الكبرى (بيت القاضي) لاختصام الوالي وإصدار قراراتهم في مجلس الشرع، ولم تكد تعلم الجماهير بما استقر عليه رأي الزعماء حتى احتشدت جموعهم واتجهت إلى دار المحكمة واحتشدت بفنائها وحولها، فكان اجتماع هذا البحر الزاخر من الخلائق هو الثورة بعينها، وظهرت روح الشعب قوية ناقمة على الوالي وعلى الحكم التركي، وخلع وكلاء الشعب من العلماء ونقباء الصناع خورشيد باشا، بدار المحكمة والجماهير محتشدة حولها في13 مايو 1805. ختاما، إن شعبا هذه مجرد واحدة من صفحات فخاره العديدة في مقاومة الضيم والذل لن يقبل القهر والإذلال طويلا، لا سيما بعد ثورة شعبية مبهرة حطمت حواجز الخوف والرهبة وخلقت أجيالا من الشبيبة لا تعرف الاستكانة. نقلا عن "الأهرام اليومى" المزيد من أعمدة نادر فرجانى