بعث لى شاب فى العقد الثانى من العمر خارج لتوه من المعتقل، بعد أربع أشهر قضاها بين مطرقة تحقيقات أمن الدولة "الأمن الوطن" وسندان الحبس فى زنزانة تأبى الخنازير أن تعيش فيها؛ رسالة مقتضبة لا تتعدى ثلاثة أسطر على بريدى الإلكترونى، مُفادُها "أنا خايف، لأ أنا مرعوب ومش عارف أتعامل مع الناس، وعندى رغبة شديدة إنى أكون لوحدى، مش باكل، ومش بنام، بقالى شهر على الوضع ده، ومش عارف أعمل إيه"، هذ الشاب لا ينتمى فكريًا أو عقائديًا لأى من الحركات أو الأحزاب، رسالته ليست كما تعودنا جميعًا أن نسمع. هذه الرسالة تجسيد لشعور تمكن من هذا الشاب وتملكه، وأخذ ينجرف به إلى قاع سحيق من الخوف والرعب والرغبة فى العزلة والإنطواء، مكبل بكل أشكال وأنواع الأغلال.. حالة من الإرهاق النفسى الشديد انتابتنى وأنا أقرأ رسالة هذا الشاب، شعرت بمعاناته، ليس من باب التعاطف مع مظلوم يروى إحساسه بما يعانيه من هلع وخوف، فمهما كان الإنسان يستمع إلى معاناة أحدهم لن يصل إلى عمق هذا الإحساس إلا إذا مر بموقف شبيه بما مر به صاحب الرواية، لذا تذكرت ما مررت به أثناء فترة إعتقالى على خلفية إضراب السادس من إبريل عام 2008 بسجن برج العرب، وحفلة الإستقبال التى أستُقبلت بها من قِبل أمن الدولة والداخلية، والتى جعلتنى أشعر لأول مرة بشعور القصب عندما يتم عصره من كثرة اللكمات والضربات المتلاحقة التى تأتينى من الأمام ليتلقفنى أحدهم من الخلف، ولأول مرة أيضًا أرى "العصافير" التى كان يراها توم عندما يضربه جيرى على رأسه فى أفلام الكارتون، التى كُنت أُشاهدها عندما كنت صغيرًا، وتحقيقات أمن الدولة وضربهم وسحلهم أثناء التحقيق، وتهديداتهم لى ولأسرتى. ، هذا التعذيب إضافة إلى الوضع غير الآدمي فى السجون، يفسر الحالة التى يكون عليها المُعتقل عند خروجه، حالة يصعب وصفها أو كتابتها، مهما كان الشخص يجيد التعبير. ولأن الخوف طبيعة بشرية، لذلك عند خروج أحد من المعتقل ينتابه شعور بخوف شديد، "خاصة من ليست لهم تجارب مسبقة فى الاعتقال". وسيكون الأشد خطرًا على المعتقل من تجربة الإعتقال نفسها هو مدى تقبل المحيط الأسرى والإجتماعى لهذه التجربة، حيث يكون محاصر من الجميع، بنظرات الخوف الشديد التى يراها فى أعين من حوله، والتى تُترجم إلى كلمات من باب النُصح والإرشاد "كفاك سياسة، إهتم بمستقبلك الذى سيضيع، أنتم قلة لن تُحدثوا أى تغيير وسينتهى بكم المطاف وراء الشمس". حالة نفسية سيئة للغاية ستتملك رغم إرادتك، إحساس دائم أن هناك من يراقبك، مما يجعلك تخشى أن تتحدث من هاتفك، وبالطبع لن تكتب أى شيء مما يجول بخلدك على صفحات التواصل الإجتماعى، وهكذا ستتحول حياتك إلى جحيم إن لم تُسيطر على هذا الشعور الذى ينتابك "الخوف". ستدرك سريعًا أنه لا معنى أن تستمر حياتك على هذا المنوال وإن لم تتدارك نفسك ستتحول تدريجيًا إلى "مسخ" لا يحركه سوى الخوف والرعب، عندما تسير فى الشارع وتري مخبرًا فى نفس طريقك ستمضي فورًا فى الاتجاه المعاكس له، بسبب خوفك من الاعتقال مرة أخرى. لابد أن تُدرك سريعًا أن ما تفعله بمعارضتك للأنظمة الديكتاتورية ليس شيئًا تخجل منه أو تخشاه، بل شيء يدعو للفخر والاعتزاز بالنفس، وأن تحرير الوطن من الطغاه له ضريبة، وأن الوطن يستحق أن نضحى من أجله. يجب عليك فى هذه اللحظة أن تتحرر من قيودك، وأن "تخاف من الخوف" تخاف من خوفك حتى لا يأسرك، وتكون عبدًا طيعًا له، فيفسد عليك حياتك ويحولها إلى جحيم. على الجانب الآخر.. أجد أن معظمنا يغفل الجانب الإنسانى لدى كثير من المعتقلين الخارجين لتوهم من جحيم سجون الداخلية وتحقيقات الأمن الوطنى، خاصة كما أشرت مسبقًا من ليست لديهم تجارب سابقة فى عالم السياسة، ونتناسى أن هؤلاء بشر فى المقام الأول، ومهما بلغ صمودهم وقوة تحملهم فى وجه هذا النظام الغاشم، إلا أنهم تعرضوا للظلم والبطش والتنكيل، وهم المدافعون عن الحرية والعدل والمساواة، ولكل هذا أثره النفسى عليه، وأكرر مهما بلغ صمودهم وقوتهم وتضحياتهم عن طيب خاطر من أجل الوطن، لكن فى النهاية هم بشر. لذا نجد الأطباء النفسيين يحذرون دائمًا من التعذيب النفسى والبدنى الذى يُمارس فى السجون والمعتقلات، إذ قد يفرز أمراضا نفسية مزمنة، كالشعور الدائم بالاغتراب النفسى والاجتماعى، وأحيانًا العدوانية وعدم قبول الآخر، وصعوبة شديدة فى تجاوز مرحلة الإعتقال. وعلى المستوى الاجتماعى تتكون رغبة شديدة فى العزلة، ينتج عنها خلل فى التوازن بسبب عدم الاختلاط بأنماط ونماذج مغايرة، أما على المستوى النفسى يؤثر بشكل كبير على الصحة النفسية تجاوز أزمة ما بعد الخروج والانخراط فى العمل السياسى مرة أخرى ليس بالأمر الصعب، لكن ذلك كله مرتبط بالدرجة الأولى بالمناخ الاجتماعى العام، ووضع تجربة المعتقل فى موقعها الصحيح كفرد قدم جزءًا من حياته للتغيير والإصلاح، لذلك فالدعم المعنوى هو الأساس من قبل الأصدقاء الثقات، فرفقًا بالمعتقلين.