منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي وتعج الساحة بكثير من التيارات والتنظيمات الإرهابية، التي تسعى إلى إقامة الخلافة الإسلامية، لكن في الوقت الذي ترفع فيه هذه التنظيمات شعارات الجهاد ضد الأمريكان وإسرائيل وأعداء الأمة نجدهم في أغلب الأحيان لا يقتلون إلا المدنيين والعزل المسلمين، خاصة في الدول المناوئة والمقاومة للنفوذ والطغيان الأمريكي، ولم نجد أي تنظيم منهم وجه سلاحه صوب إسرائيل أو أي يهودي أو أمريكي، إلا في حالات نادرة. سهلت أجهزة المخابرات الأوربية والأمريكية عمل هذه الجماعات وقامت بتمويلها ودعمها سراً لخدمة مصالحها وتحقيق أهدافها وتشويه صورة الإسلام في العالم ووصفهم بالإرهاب لبلورة رأي عام غربي وعالمي أن الإسلام هو منبع الإرهاب في العالم. التمويل الخليجي الأمريكي للتنظيمات الإرهابية ليس أمرا جديداً، بل إن السعودية كانت منذ ثمانينيات القرن الماضي ترعى وتدعم الجماعات المتطرفة وترعاها ماديا ومعنويا وترسل الشباب العربي إلى جامعاتها لتعلم الأفكار الوهابية والعودة إلى بلدانهم متشبعين بالأفكار الوهابية في بلدانهم. وحتى في الوقت الراهن فالحرب السعودية المزعومة اليوم على منتمين ل"داعش" هم في الأساس رعايا لها لن تقنع أحدا، فالرأي العربي العام بات يدرك أن للرياض دورا أساسيا في تبني ودعم وترويج الفكر التكفيري الدموي والتدميري وصناعة الانتحاريين أتباع "داعش" و"طالبان" و"القاعدة" و"بوكو حرام" وغيرها، لاسيّما في ظلّ تدريس هذا الفكر في مناهجها التعليمية، وسيطرته على مؤسسات الدولة الرسمية وبالخصوص الدينية والإعلامية. بتتبع بسيط للأزمة في سوريا نجد أن تركيا، الدولة العضو في الناتو، والمملكة السعودية وقطر (وهما من حلفاء وزبائن الولاياتالمتحدة وفرنسا) تقوم بتمويل وتسليح داعش وجيش الفتح، وهو عبارة عن تشكيل عسكري تابع لجبهة النصرة، الفرع السوري لتنظيم القاعدة. تمويل السعودية ل"داعش"، قد يكون منطقيا، لأن الرياض كانت وراء تأسيس حركة "القاعدة" منذ البداية، وثانياً أنها تقدم على هذا التمويل لتشجيع "داعش" على مقاتلة الجيش العربي السوري، وهو الأمر المتناغم مع مصلحتها في إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد، بالإضافة إلي أن هذا التمويل هو إحدى الوسائل الخبيثة التي تقوم بها السعودية ودول الخليج لوأد الثورات العربية وتحذير المتطلعين إلى التغيير في بلدانهم. من هنا فإن ارتباط المملكة السعودية بتنظيم داعش الإرهابي سواء كان بصورة مباشرة أو غير مباشرة، يطرح الكثير من علامات الاستفهام حول كيفية التقارب المصري السعودي ومستقبله، خاصة أن هذا التقارب يلقي بظلاله على الأمن القومي المصري، ويتجلى بوضوح في خمس ملفات شائكة، تشكل بمجملها حدود مصر الجغرافية والجيوسياسية، (ليبيا- السودان- سوريا- اليمن- سيناء والجماعات الإرهابية). ليبيا يبلغ طول الحدود المصرية الليبية نحو ألف و50 كيلو مترًا من الشمال عند البحر المتوسط وحتى الحدود المصرية السودانية، وتشهد هذه الحدود استنفارا أمنيًا خاصة خلال هذه الأيام مع وجود تهديدات من جانب الجماعات المتشددة وأنصار الشريعة وتنظيم داعش وجماعة الإخوان، ويتركز التشديد الأمني المصري في السلوم خاصة وأنه المنفذ البري، لاسيما في ناحيتي الهضبة البحرية والقبلية من هضبة السلوم. المشكلة تكمن في اتساع الحدود بين مصر وليبيا وأي تنامي للجماعات المتطرفة فيها سينعكس بالضرورة على الأمن القومي المصري، وهي نقطة يتجاهلها الطرف السعودي، فالخلاف بين القاهرةوالرياض حول ليبيا كبير، حيث ترى مصر وجوب توجيه ضربات عسكرية عربية للجماعات المسلحة في ليبيا، فمصر كانت تقود دعوة للتحرك العسكري لدعم قوات حفتر، ولكن السعودية ترفض بشدة هذا التوجه؛ ما جعل مصر توقن جيدًا أن السعودية لم تعد ترى أن الإخوان العدو الأول الذي يجب محاربته، كما أيقن النظام المصري أن القيادة السعودية الجديدة أجرت تعديلات على أجندتها الإقليمية جعلت الأولوية القصوى تتلخص في حربها باليمن وأجلت مواجهة الإخوان المسلمين، لأنها على ما يبدو بحاجة لدعمهم في عدوانها على اليمن. من هنا نجد أن الرياض اتجهت لجعل ليبيا ورقة ضغط على النظام المصري ودافع تقارب مع الإخوان، ويرتهن ذلك ببراجماتية مفادها دعم مصر للسعودية في اليمن مقابل دعم السعودية لمصر في ليبيا، والتقارب مع الإخوان في ليبيا نظير تقريب وجهات نظر الرياض وأنقرة فيما يتعلق بالصراع مع إيران بالمنطقة. السودان تظل قضية حلايب مرتكزا للقلق بين مصر والسودان حيث تعتبر سبب توتر العلاقات بين البلدين، تستخدمه القيادة السودانية للتهرب من مشاكلها الداخلية، ولكن الموضوع بدأ يأخذ طابعاً أخطر بعد أن أصبحت المملكة السعودية تستحوذ على خيوط اللعبة فيه، وأصبحت طرفاً أساسياً يستطيع التحكم بمجريات الأمور من حيث تهدئتها أو حتى إشعالها. نقطة التحول العلنية حدثت خلال شهر ديسمبر العام الماضي، حيث تم طرد الملحق الثقافي الإيراني، وصدرت تعليمات بإغلاق المراكز الثقافية الإيرانية على أرض السودان، وأعلنت وزارة الخارجية في الخرطوم أن تلك المراكز تجاوزت التصديق الممنوح لها، على الرغم من أن العلاقات السودانية الإيرانية ناهزت ال 20 عامًا، فمنذ وصول عمر البشير للحكم في السودان، توطدت العلاقات الاستراتيجية بين السودان وإيران، حيث يساعد السودان إيران منذ سنوات، في تهريب السلاح لغزة، ونُسب للجيش الإسرائيلي مجموعة من الهجمات على قوافل ومصانع أسلحة على أرضها. ويرى مراقبون أن التحول السوداني باتجاه السعودية وموافقته على إغلاق المراكز الإيرانية يأتي استجابة لضغوط اقتصادية مارستها السعودية على السودان، خاصة أن الرياض هي الدولة التي تستأثر بالحجم الأكبر من الاستثمارات بالسودان، وتشكل ثاني أكبر شريك تجاري مع السودان بعد الصين، وبعد انضمام السودان لتحالف الحزم ومشاركة قواتها في المعارك البرية باليمن، بالرغم من أن السعودية نفسها قللت من فاعلية المشاركة السودانية بسب ضعف إمكانياتها إلا أن البعض يعتبر هذه المشاركة دليل على انطواء السودان تحت الجناح السعودي من جهة، ومن جهة أخرى تستطيع المملكة السعودية استخدام السودان كورقة ضغط مستقبلية على مصر، بما لها من أهمية حدودية، خاصة في ظل إشعال الخلاف بين الحين والآخر حول حلايب، فضلا عن خطر تدفق الجماعات الإرهابية من السودان، أضف إلى هذا ملف سد النهضة الإثيوبي. سوريا لا يقلل أحد من أهمية الملف السوري وما يشكله من بعد قومي لمصر، منذ أيام الوحدة بينهما واعتبار الجيش العربي السوري هو جيش مصر الأول حتى اللحظة، وهنا تكمن المعضلة، فمصر تعتبر أن بقاء الجيش العربي السوري هو خط الدفاع الأول لمصر وسقوطه سيؤثر بشكل مباشر على أمنها القومي، بينما السعودية تسعى بكل قوتها لتدمير هذا الجيش على خلفية الصراع الدائر في سوريا والذي تتحيز فيه السعودية للمعارضة السورية، ولا يقف الموضوع عند هذا الحد، فالمشكلة أن البديل الموضوعي للجيش العربي السوري هو الجماعات الإرهابية المسلحة كداعش وجبهة النصرة والتي لا ترى السعودية ضير في دعمها بالمال والسلاح، وفي حال نجحت هذه الجماعات بالسيطرة على سوريا فهذا يعني بالضرورة أن جار مصر الجديد هو الجمهورية الداعشية كبديل عن الجمهورية العربية السورية، واستمرار السعودية بنفس هذا النهج يعني ضرراً بليغاً لأمن مصر وجعل حدوده مكشوفة للإرهاب. اليمن لا تشكل اليمن حدود مباشرة مع مصر، لكن من الناحية الاستراتيجية بالغة الأهمية، وموقف مصر من الحرب السعودية في اليمن كان نقطة خلاف بين البلدين، فبالرغم من إعلان مصر انضمامها إلى التحالف في أول الأمر، إلا أنها لم تشارك بفاعلية في التحالف العسكري وظلت مترددة، ولمواقف مصر ما يبررها، فالمملكة السعودية بدأت تخطو خطوات سريعة باتجاه الدوحة وأنقرة، وهي تعرف جيدًا أن قطروتركيا داعمين إقليميين لجماعة الإخوان المسلمين ويتدخلان باستمرار سلباً بالشأن المصري وهو الأمر الذي لا تقبله القاهرة، كما أن الرياض تعلم جيدًا أن ملف الإخوان المسلمين مغلق تمامًا بالنسبة للقاهرة، ومع ذلك تسعى لدعمهم والاستفادة منهم في اليمن. المشكلة في اليمن متشعبة، فمسألة دعم السعودية للإخوان لأن مصلحتها الراهنة تجعلها في حاجة لهم هي مسألة جزئية، لكن الحقيقية تكمن في تبعات هذا العدوان خاصة أن اليمن باتت ساحة صراع مفتوحة ظاهرها بين السعودية وأنصار الله ولكن في الباطن هناك العديد من التنظيمات الإرهابية التي باتت تتدفق على اليمن أبرزها داعش، فبغض النظر ما إذا كانت داعش ممولة من السعودية أم لا، فإن انعكاسات فشل السعودية في اليمن يعني خروجها من البلاد مع بقاء هذه التنظيمات الإرهابية، وبالتالي سيطرة هذه الجماعات على اليمن لملئ الفراغ السعودي، وهو أمر يهدد الأمن القومي المصري، لاسيما إذا وقعت الممرات الحيوية كباب المندب في يد داعش، وهو ما سينعكس على أمن وكفاءة قناة السويس التي تعد من أهم منافذ مصر وأخطرها تعلقاً بالأمن القومي. سيناء والجماعات الإرهابية مر عام على مبايعة تنظيم "أنصار بيت المقدس" الإرهابي لتنظيم "داعش"، ولم يكن لداعش أي فروع داخل مصر حتى جاءت المبايعة وأصبح التنظيم أحد فروع داعش في مصر، حيث تعد أنصار بيت المقدس من أكبر الجماعات التكفيرية الموجودة في مصر، إلا أنه وهنت قوتها وقلت أعدادها بعد قطع الإمدادات ومحاصرة التنظيم الإرهابي من قبل الجيش المصري، فما كان أمام التنظيم الإرهابي إلا أن بايع داعش، من أجل الحصول على الدعم المادي والسلاح لاستخدامهما في تخريب البلاد. إذا كانت الملفات الأربعة السابقة (الليبي ،السوداني ،السوري ،اليمني) التي تتحكم بها السعودية تهدد الأمن القومي المصري عبر حدودها الخارجية، فإن ملف الجماعات الإرهابية يهدد أمن مصر من الداخل، وهو ملف من المتوقع أن تتحكم فيه السعودية بصورة مباشرة أو غير مباشرة، لتقارب فكرها الوهابي المتسق مع هذه التنظيمات، ودعمهم بالمال والسلاح في مناطق مشتعلة بالمنطقة، أضف إلى ذلك أنه وبعد وفاة الملك عبد الله وقدوم سلمان تطورت علاقة السعودية مع جماعة الإخوان المسلمين على خلفية احتياجه لهم في حربه الدائرة باليمن وسوريا، ومن المعروف أن النظام المصري يدرج هذه الجماعة ضمن التنظيمات الإرهابية، وبالتالي تقارب السعودية مع الإخوان وكذلك مع قطروتركيا، يثير الكثير من علامات الاستفهام حول مدى جدية السعودية في التقارب مع النظام المصري إذا ما استمرت في اتباع نفس نهجها السياسي الحالي، ودعم الجماعات المصنفة مصرياً ضمن قائمة الإرهاب كالإخوان وداعش، الأمر الذي بات يشكل خطراً على مصالح مصر خاصة أمنها القومي.