من أعلام الفكر الإسلامي العربي في القرن العشرين، يُعدّ أحد رُوّاد النهضة الفكرية الإسلامية، ويُمكن اعتباره امتدادًا لابن خلدون، ويعد من أكثر المفكرين المعاصرين الذين نبّهوا إلى ضرورة العناية بمشكلات الحضارة، كانت جهوده في بناء الفكر الإسلامي الحديث وفي دراسة المشكلات الحضارية عموما متميزة، سواء من حيث المواضيع التي تناولها أو من حيث المناهج التي اعتمدها في ذلك. وكان أول باحث يُحاول أن يُحدّد أبعاد المشكلة، ويحدد العناصر الأساسية في الإصلاح، ويبعد في البحث عن العوارض، وكان كذلك أول من أودع منهجًا محددا في بحث مشكلة المسلمين على أساس من علم النفس والاجتماع وسنة التاريخ. المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي، الذي تمر اليوم ذكرى وفاته، ولد بمدينة قسنطينة شرق الجزائر، وترعرع في أسرة إسلامية محافظة، فكان والده موظفًا بالقضاء الإسلامي حيث حول بحكم وظيفته إلى ولاية تبسة حين بدا مالك بن نبي يتابع دراسته القرآنية والابتدائية بالمدرسة الفرنسية. وتخرج سنة 1925 بعد سنوات الدراسة الأربع، وسافر بعدها مع أحد أصدقائه إلى فرنسا حيث كانت له تجربة فاشلة فعاد مجددًا إلى مسقط رأسه، وبعد العودة تبدأ تجارب جديدة في الاهتداء إلى عمل، كان أهمها، عمله في محكمة آفلو حيث وصلها في مارس 1927، احتك أثناء هذه الفترة بالفئات البسيطة من الشعب فبدأ عقله يتفتح على حالة بلاده، واستقال من منصبه القضائي فيما بعد سنة 1928 إثر نزاع مع كاتب فرنسي لدى المحكمة المدنية. أعاد الكرة سنة 1930م بالسفر لفرنسا ولكن هذه كانت رحلة علمية، حاول أولا الالتحاق بمعهد الدراسات الشرقية، إلا أنه لم يكن يسمح في ذلك الوقت للجزائريين أمثاله بمزاولة مثل هذه الدراسات، فتركت هذه الممارسات تأثيرا كبيرا في نفسه، فاضطر للتعديل في أهدافه وغاياته، فالتحق بمدرسة (اللاسلكي) للتخرج كمساعد مهندس، مما يجعل موضوعه تقنياً خالصاً، أي بطابعه العلمي الصرف، على العكس من المجال القضائي أو السياسي. في محاضرة للدكتور محمد سعيد مولاي، جامعة هواري بومدين للعلوم والتكنولوجيا بالجزائر، عنوانها «محطات في حياة مالك بن نبي»، قال: امتدت حياة مالك بن نبي ما بين أوائل القرن العشرين وثلثه الأخير، ولم تنقطع شهاداته الحية على مدى تلك الفترة من خلال تحاليله الفذة لمجريات الأحداث، ومعالجاته لمشكلات الحضارة، "شاهدا على القرن" بكل روافده الاستعمارية والثورية، حريصا على نهضة العالم الإسلامي من سباته منذ عهد ما بعد الموحدين إلى "دور المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين، فكانت حياته -منذ الطفولة إلى التقاعد- حياة كفاح بالقلم، وجهادا بالدليل العلمي وجوامع الكلم، في عالم تضاربت فيه القرائح بين مسرف في"الشيئية" همه الخلود إلى الأرض، وبين غائص في "الفكر" المثالي يتطلع إلى المطلق، وهل من سنة أجدى وأبقى في تغيير الأنفس والمجتمعات من نور القلم الذي به علم الرحمن، علم الإنسان ما لم يعلم. وهل من جهاد في مجال الثقافات والحضارات أكبر من نفوذ الكلمة في صنع الذهنيات وطرح ما بها من ملابسات وانحرافات مثلما جاء في قوله عز وجل: "وجاهدهم به جهادا كبيرا" (الفرقان 25 /52)؟ وأضاف: تميز مالك بقدرته الفائقة على التحليل العلمي في القضايا الاجتماعية النفسية والمسائل الفكرية والدينية، فتراه في معالجته لتلك القضايا كأنما يعالج مسائل فيزيائية أو رياضية. مثل ذلك تحليله لعناصر الحضارة مثل تحليل الكيماوي للماء، وانبعاث الحضارة يراه متجسدا في دافع الدين على غرار دافعة أرشميدس، والدورة التاريخية بين مبتداها ومنتهاها على شاكلة الدورة الدموية بين عمليتي الانقباض والاسترخاء. كما تميز باطلاعه الواسع على كل من الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية، وغيرهما من الحضارات القديمة والحديثة. فدرس إلى جانب دوراتها أسباب أوجها وسقوطها وأثبت بقوة الدليل والبيان ما للعقائد من طاقة فريدة في نشأتها وتفجيرها. واتخذ مالك كعنوان لدراساته قوله تعالى :"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". وانصب جل تفكيره في هذا الاتجاه: إذ كيف مثلا ترفع مهانة الاستعمار عن الشعوب من غير رفع وطأة "القابلية للاستعمار" وتحرير الرقاب من "الأفكار الميتة والقاتلة"؟ وهل من سبيل إلى الرقي الحضاري بدون الاعتناء بتقويم الإنسان بدلا من "تكديس الأشياء"؟ وهل تقوم النهضة على التغني بأمجاد ما مضي ونسيان ما هو قائم وواقع وتركه لأباطيل الغزو الثقافي والصراع الفكري؟ لقد رأى مالك ما أصاب الأمة من مصائب شتى، وإن المصاب جلل والوعي بالرسالة قد ثقل، فترك رخاء الحياة ورغد العيش بالانشغال كمهندس من خريجي أكبر مدرسة فرنسية في الكهرباء، وانكب كمهندس من نوع جديد في معالجة مشكلات الحضارة مع كل ما سيصحبه في ذلك من متاعب وعناء وأذى.