الحب هو الطريق إلى الحقيقة لدى البعض، وهو السبيل إلى الحكمة لدى آخرين، وهو أيضا القارب الذي يصحب غيرهم إلى الجمال الحقيقي. الحب الصوفي هو رحلة لمعرفة الله عن طريق العشق، فالمسافر هو المريد، والطريق هو العشق، والهدف هو الله، والمتصوف لا يمتلك أبدا غير العشق، لأنه الطريقة الوحيدة التي يعتقد أنها تمكنه من لقاء الله. إن مفهوم الحب عند المتصوفة وخاصة الحب الإلهي يعني الاندماج والتوحد مع الذات الإلهية، أو الانصهار المطلق بها، حيث تُرى ذاتا واحدة، لا ذات عابد ومعبود، أو عاشق ومعشوق، فالحب هنا يتحقق بوصول المتصوف إلى مرحلة توحيد الذات أي الاتحاد مع الذات المطلقة، غير أن المريد وهو إنسان محدود بطبيعته يريد أن يتماهى مع الذات الإلهية اللامتناهية، وهذا التماهي إنما يكون بالحب أو العشق الإلهي، فإلانسان كما قيل مفطور على حب الكمال، والعشق الإلهي هنا تكون الغاية منه بلوغ هذا الكمال، ولا يتحقق هذا إلا بالتوحد بالذات الإلهية، فالله في نظر المتصوفة يحبنا قبل أن نحبه، ولذا فمن يتوق إلى الكمال عليه أن يحب الله ويعشقه. وزيارة الله تكون في ذات المتصوّف، فالله ليس خارجا عن ذات المريد طالما أنه قد وصل إلى مرحلة "توحيد الذات" . لذلك نرى واحدا من أعلام الصوفية كالحلاج يبين أن الذات الإلهية المطلقة اللامتناهية تحل في الذات الإنسانية المحدودة التي هي ذات المتصوف، وأن أي توصيف لحالة العشق التي يمر بها المتصوف ليس دقيقا إلى حد كبير، فتجربة الحب إذن عند الصوفية تجربة ذوقية وجدانية خاصة لا يفهمها إلا من مارسها، وبمفهوم السادة الصوفية أن تحب يعني أن تكون إلهاً. يقول ابن سينا في تعريفه للحب: "الحب الحقيقي هو البحث والرغبة فيمن هو طيب جميل ومناسب حقيقة"، من ثم يرى أن الحب هو البحث عن الكمال والخير والاحتفاظ بهما، غير أن الحب عند ابن سينا لا يتوقف عند الكائنات الحية فحسب، بل يتسلل إلى كل شيء، فيشير إلى أن أعلى درجات الحب ليست في جماله بل في خيره، وأن حبنا لوجه من الوجوه يعكسه جمال إلهي، فالحب الأول والأعلى لديه هو حب الله، ونلاحظ أن الحب الكامل عند ابن سينا هو حب الخير المطلق والحب الإلهي. أما أفلاطون فقد عرف الحب بأنه: "المخرج من اللا وجود إلى الوجود"، فالحب عنده يعني الترفع عن شوائب المادة والسمو إلى نورانية الروح، فهو شوق يدفع الإنسان إلى الحصول على المعرفة وبلوغ الخير والجمال، ويبدأ الإنسان بحب الأشكال الجميلة، ثم يرتقي من حب المادة إلى حب الأشياء المعنوية، فهو طريق يصعد بنا بواسطة الانجذاب درجة بعد درجة نحو كل ما هو موجود، بعيدا عن الأجسام والمادة، أي فوق رغبات الجسد. الحب الأفلاطوني هو تقنين لمذهب الحب من أجل الحب، فهو يرى العاشق أطيافا سارية عند آفاق لا تعترف بحدود الزمان والمكان، أو بقيود الجسد الفاني الذي لا يتسع لمثل هذا الحب، إنه الحب العفيف والمتسامي، وهو غاية في حد ذاته يجعلك تتخلص من كل أدران الشهوة الجنسية العابرة طلبا للنشوة الروحية الدائمة. ويرى أفلاطون أن الجنس هو جزء طبيعي من الحب، ولكن تلك الرغبة الجنسية ليست هي نهاية الحب، ويجب علينا أن نصل في نهاية الحب إلى النموذج الأعلى والمثالي والذي يكون التواصل فيه على الصعيد الروحي والمعنوي لا المادي، فالحب لدى اليونانيين القدماء كان وفق درجات، أدناها الحب الجسدي الذي يتيح للإنسان شيئا من الخلود عن طريق ذريته، وبذلك يخلد وجوده الفاني، ثم يأتي الحب الروحي وفيه يعشق المحب ذات المحبوب، وهو أرفع من حب الجسد وأكثر خلودا، وتسوده خصال الفضيلة والحكمة؛ وفوق هذا الحب بدرجات يأتي الحب الأفلاطوني المثالي، الذي يرقى فيه العقل فوق العالم الحسي، ويرتفع من عالم الروح المقيدة بالأشخاص والناس إلى عالم الجمال المطلق أو عالم المثال، وهو غاية الغايات، الغاية التي ليس وراءها غاية أخرى. ويأتي نيتشه في كتابه "العلم المرح" ليقلب الحب ومفهومه رأسًا على عقب، حيث عمل على تجريد الحب من مكانته السامية، وأثبت أن ما نعتقده في الحب ليس إلا نقيضا له، فيقول "إن الحب هو الأنانية في أكثر صورها سذاجة، فهو "لا يرى الحب إلا جشعا وطمعا وحبا في الامتلاك والاستحواذ، وهو في رأيه غريزة جنسية بحتة يتحرك من خلالها الفرد، ومن ثم لا يمكن اعتباره حسنة أخلاقية، ولما كان ذلك كذلك أصبح الحب -كما يزعم نيتشه- رغبة في الامتلاك والاستيعاب، وإدخال شيء جديد على أنفسنا، وأن دافع الحب والطمع واحد، فيدلل على ذلك قائلا: "الطمع والحب يثير كل من المفهومين مشاعر مختلفة لدينا، ومع ذلك فلتقاربهما قد تكون نفس الغريزة ولكن لها اسمان مختلفان، أو بالأحرى تحرك نفس الغريزة كلا من الحب والطمع، واعتمادا على مدى الإشباع الذي تحققه نختار لها مسمى إما حبا أو طمعا؛ أي أن أولئك الذين يشعرون بإشباع سينظرون لغريزة الآخرين التي تهدد حبهم على أنها جشع وطمع، في حين أن أولئك الذين يبحثون عن شيء جديد لإشباع رغباتهم سيفرضون تقييما إيجابيا على هذه الغريزة مطلقين عليها الحب، لذلك فإن الحب كشهوة هو رغبة في التملك تم تمجيدها بواسطة هؤلاء الذين يبحثون عن شيء لإثراء أنفسهم"، وربما اختلفنا مع نيتشه في رأيه السابق، لكننا نتفق معه بلا شك حين يقول: "إنني لم أجد امرأة تصلح أما لأبنائي إلا المرأة التي أحبها".