يعتبر طغرل بك بن سلجوق هو المؤسس الحقيقي للدولة السلجوقية برغم أنه ثالث حكامها، لكنه عندما تولى الحكم استطاع أن يوطد لأركان حكمه بعد أن تغلب على خانات بخارى، وكان حكمه تابعًا لولايتهم تحت سلطان الدولة الغزنوية، وهي دولة إسلامية حكمت بلاد ما وراء النهر، وشمال الهند وخراسان، في الفترة ما بين عامي 961 و1187م. وكان طغرل بك وعمه وأخوه جغري قد اضطروا للانسحاب تكتيكيا إلى خوارزم، ثم استطاع أخوه السيطرة على مدن مرو ونيسابور، وسرعان ما أخضعوا خراسان، ثم قاد طغرل بك الجيوش وقاتل الغزنويين بقيادة مسعود بن محمود، وتمكن بعدها من إدخال إيران تحت حكمه، ثم دخل بغداد مستجيبا لدعوة الخليفة العباسي لاستنقاذ دولة الخلافة من سيطرة الدولة البويهية، وكان ذلك في عام 1055م. نفخ طغرل بك من روح دولته الفتية أنفاس الحياة في جسد الدولة العباسية بعد أن شارفت الفناء، واستطاع أن يعيد لها سلطانها على العالم الإسلامي وكان قد تقلص لحساب الفاطميين وغيرهم. في العام 1063 توفي طغرل بك، ولم يكن له ولد يخلفه في الحكم، فتولى الحكم من بعده ابن أخيه الملقب ب(ألب أرسلان) وتعني الأسد الشجاع، أما اسمه فهو محمد بن جغري بك داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق التركماني، وكان حاكمًا لخراسان بعد وفاة والده، وكان يعاونه وزيره المشتهر بنظام الملك، وكان ذا دهاء وحيلة ودراية بشؤون الدولة وحنكة سياسية؛ قل أن يوجد لها نظير، فاستطاع ألب أرسلان بمساعدة هذا الوزير أن يخضع أجزاءً كبيرة من آسيا الصغرى وأرمينيا وجورجيا، وذلك أثناء حكمه لخراسان. وجد ألب أرسلان نفسه بين عشية وضحاها نفسه حاكمًا لإمبراطورية مترامية الأطراف، تمتد من سهول تركستان حتى دجلة، مع منازعات شديدة له في الحكم من قبل أخوه وابن عم أبيه انتهت إلى المواجهات الحربية التي كان النصر فيها حليفه. ولم يهنأ الرجل بالنصر حتى خرج على حكمه بعض حكام الأقاليم كحاكم كرمان، وتزامن ذلك مع تزايد غارات القبائل التركمانية على أطراف الدولة بقصد السلب والنهب وإثارة الرعب، لكنه استطاع السيطرة على كل تلك الفتن، وكذلك أحبط محاولة عمه بيغو للاستقلال بإقليم هراة، ثم دخل الري كان ابن عم أبيه قد استولى عليها واتخذها عاصمة للدولة، وأعلن نفسه سلطانًا، ثم أغار على شمال الشام، وضرب الحصار حول حلب التي كانت عاصمة للدولة المرداسية، وكانت تدين بالولاء للفاطميين، وما لبث أن هزمهم وأجبر أميرهم محمود بن صالح بن مرداس على إقامة الدعوة للخليفة العباسي، بعد ذلك أرسل حملة كبيرة استطاعت أن تنتزع الرملة وبيت المقدس من الفاطميين، ولم تستطع الحملة الاستيلاء على عسقلان لقوة تحصيناتها؛ إذ تعتبر بوابة الدخول إلى مصر. بالقطع فإن تلك الانتصارات قد أقضت مضجع الإمبراطور البيزنطي أرمانوس ديوجينس إذ رآها تهديدًا قويًّا يقترب منه رويدًا رويدًا؛ فقرر أن يبادئ ألب أرسلان بالحرب، وكانت مناوشات عديدة قد حدثت بين القوات من الجانبين على مدار أشهر، إلى أن جاء العام 463ه، الذي شهد تلك الموقعة التي ستصير يومًا من أخلد أيام الإسلام، خاصة أن بعض المصادر تشير إلى أنها وقعت في 25 رمضان، وإن رجحت روايات أخرى أنها وقعت أوائل ذي القعدة الموافق لشهر آب أغسطس عام 1070م. وملاذكرد مدينة تقع الآن في محافظة موس التركية، كانت مركزًا تجاريًّا مهمًّا خلال حكم المملكة الأرمينية، وكذلك خلال فترة حكم الإمبراطورية البيزنطية. يصف ابن كثير ما جمعه الإمبراطور البيزنطي من جند وعتاد بأنها "جحافل أمثال الجبال" تنوعت أجناسهم بين الروم والروس والكرج والأرمن والخزر والفرنجة والبلغاريين، قاربوا المائتي ألف، وكانت بغيتهم إبادة الإسلام وأهله، أما جيش ألب أرسلان فقد كان زهاء العشرين ألفا كلهم من الفرسان ، والسبب في قلة عدد جيش المسلمين أن السلطان كان راجعًا من حلب، وعندما وصل إلى منطقة أذْربيجان، وصلته الأخبار عن تحرك الإمبراطور البيزنطي إلى ملاذ كرد، وسمع عن هذا الجيش وكثرته، وكان جيشه بعيدًا عنه قرب بحر قزوين، فلم يستطع جمع قواته، لبعد مواقعهم وقرب العدو منهم، فسار بمن معه من الجند نحو المواجهة مع ذلك الجيش العرمرم، وكان الإمبراطور قد جعل فرقة من الفرسان الروس تقدر بنحو عشرة آلاف مقاتل على مقدمة الجيش؛ وكان أن اشتبكت تلك المقدمة مع مقدمة جيش المسلمين؛ فانكسر الروس وأسر قائدهم؛ حاول ألب أرسلان استغلال هذا النصر السريع الذي حققه في الحصول على هدنة يستطيع خلالها جمع قواته والتجهز للحرب بشكل مناسب، لكن الإمبراطور أخذته العزة بالإثم، ورفض طلب الهدنة، ورد ساخرًا: "لا هدنة إلَّا بالري" يقصد أنه لا يرضى بأقل من دخول عاصمة الدولة السلجوقية واحتلالها، وبعد ذلك لكل حادث حديث. أثار هذا الرد غضب السلطان وكان معه العالم الفقيه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري الحنفي فقال للسلطان: "إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان وأرجو أن يكون الله تعالى قد كتب باسمك هذا الفتح، فلاقِهم يوم الجمعة، بعد الزوال في الساعة التي يكون فيها الخطباء على المنابر، فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة". يصف ابن الأثير المشهد قائلًا: لما كانت تلك الساعة من يوم الجمعة صلى ألب أرسلان وبكى فبكى الناس لبكائه، ودعا ودعَوا معه وقال لهم: من أراد الانصراف فلينصرف، فما ههنا سلطان يأمر وينهى؛ ثم ألقى النشاب، وأخذ السيف والرمح، وعقد ذنب فرسه بيده، وفعل عسكره مثله، ولبس البياض وتحنط وقال: إن قُتلت، فهذا كفني. وفي الموعد تمامًا كما حدده الفقيه أبو نصر كان الجيش على أهبة الاستعداد لتسطير ملحمة لم يعرف التاريخ لها مثيلًا، وستظل شاهدة على بسالة هذه الفئة المؤمنة، التي واجهت بثبات جيشًا يماثلهم عشرة أضعاف وربما يزيد. كان الإمبراطور ينزل مع جيشه الوادي على الطريق إلى خلاط، وما إن رآهم السلطان حتى نزل عن ظهر فرسه، وعفر وجهه بالتراب وبكى، وأكثر من الدعاء ثم ركب وانقض على جيش الروم، وحملت العساكر معه، وكان قد أعد وقواده خطة تقتضي مهاجمة قلب الجيش البيزنطي لتشتيت شمله، وإحداث فوضى عارمة في صفوفه، وكان الهدف المتفق عليه هو الوصول إلى خيمة الإمبراطور ومحاولة أسره، أو الوصول إلى الخيمة وإيهام الجند الرومية بمقتل إمبراطورهم برفع رأس أحد قادته القتلى على حربة والصياح بمقتله. تم تنفيذ ما خطط له بدقة، وبالفعل انهزم البيزنطيون شر هزيمة وقتل منهم نحو ثمانية آلاف وأسر الإمبراطور ومعه نحو أربعة آلاف فارس وجندي، بينما شُرد نحو عشرين ألفًا. كانت ساحة المعركة تضيق بجثث البيزنطيين بينما كان يدور هذا الحوار بين السلطان والإمبراطور، قال السلطان: لو كنت أنا الأسير بين يديك، فماذا كنت تفعل؟ وكان رد الإمبراطور: كل قبيح. فيسأله السلطان: فما ظنك بي؟ فيقول: تقتلني أو تشهرني في بلادك، أما العفو وأخذ الفدية فبعيد. فيأتي رد ألب أرسلان: ما عزمت على غير العفو والفداء. افتدى الإمبراطور نفسه بنحو مليون ونصف المليون دينار ذهبي، على أن يطلق كل أسير مسلم ببلاده، وتضع الحرب أوزارها بين الجانبين لنصف قرن، على أن تدفع جزية مقدارها ألف دينار ذهبي عن كل يوم، ثم قام الإمبراطور فقبل الأرض بين يدي سلطان العالم كما كان يُدعى. يقول الدكتور علي الصلابي عن انتصار المسلمين في ملاذكرد أنه: كان حدثًا كبيرًا، ونقطة تحول في التاريخ الإسلامي؛ لأنه سهل إضعاف نفوذ الروم في معظم أقاليم آسيا الصغرى، وهي المناطق المهمة التي كانت من ركائز الإمبراطورية البيزنطية وأعمدتها، وهذا ساعد تدريجيًّا على القضاء على الدولة البيزنطية على يد العثمانيين، كما أن انتصار المسلمين في هذه المعركة لم يكن انتصارًا عسكريًّا فقط بل كان انتصارًا دعويًّا، إذ انتشر الإسلام في آسيا الصغرى، وضمت مساحة تزيد على 400 ألف كم إلى ديار المسلمين». ولم يطل الزمان بهذا البطل العظيم بعد هذا النصر المؤزر، إذا قضى نحبه في العام التالي على يد أحد الموتورين عن عمر ناهز الثالثة والأربعين قرب نهر أوكسيوس بتركستان، ودفن بمدينة ميرف، بعد أن قدم نموذجًا للقائد البطل المجاهد والحاكم العادل الزاهد، رحمه الله رحمة واسعة وتقبله في الصالحين.