مئات القصص والحكايات بين الناس الشقيانين، ترويها ملامح الوجوه وهزالة الأبدان التي أتعبتها الأيام، وأوجعتها تصريحات المسؤولين عن مهنة لم يختاروها لأنفسهم، وإنما فرضتها عليهم صعوبات الحياة من أجل لقمة عيش كريمة، عمال النظافة، التى قدست مهنتهم دول وشيدت لهم التماثيل في الميادين العامة، احتراما لهم وتقديرا لعملهم، وتأكيدا على أن تقييم البشر لا يكون بما يمتهنون، وإنما بإتقانهم لأعمالهم. تحت حرارة الشمس يلوذ الجميع بالفرار، ويتوارى الناس تحت الأبنية والأشجار، هربا من أشعتها الحارقة، لكن هناك فئة لم تستسلم لتلك الحرارة بل واجهواها قسرا لا رغبة في المواجهة، تسلحوا بمعدات عملهم "برنيطة وعفريته". إبراهيم، 50 عاما، أحد عمال النظافة، يستهل عمله بشارع المبتديان في الصباح الباكر، قبل أن ترسل الشمس أشعتها على المنازل، يقول: أجلس بين الحين والآخر تحت الظلال لألتقط أنفاسي من جولة عمل تبدأ في الصباح الباكر وتستمر حتى الثانية ظهرا، لأستعيد النشاط، لكني لم أعد قادرا على إنهاء الطريق الذي بدأته منذ 25 عاما، فالصحة لم تعد كما كانت، والأمراض كل يوم تحاصرني "ومفيش علاج جايب نتيجة، لكن هعمل إيه ما باليد حيلة، لو قعدت مش هنلاقي ناكل أنا وأولادي، ولا هعرف أعلمهم زي الناس، وأديني صابر يمكن ربنا يعوضني في حد منهم عن الأيام اللي شفتها". حياة أخرى يعيشها إبراهيم فتحي، قضى نصفها في التجول بين شوارع بنت المعز، ينتقل من مكان إلى آخر حسب رؤية رؤسائه، "أغلب شوارع القاهرة أنا حفظتها، حفظت أشكال الحواري، وعرفت الشوارع اللي فيها ناس محترمة، وإيه هي الأماكن اللي فيها ناس مش كويسة، دا عمر قضيته ومش ممكن أنساه"، ويتابع: "مبقتش عايز حاجة من الدنيا غير الستر، لما كنت في شبابي نحت الصخر علشان أربي عيالي وأعيش حياة كريمة، لكن الصخر بقى على حاله وأنا اللي اتنتحت من المهنة اللي أنا فيها دي، مهما تعمل مش هتلاقي مقابل يكفيك، الحاجة بتغلى والمرتبات بتزيد بالقطَارة، لكن الحمد لله أدينا عايشين وراضيين باللي ربنا كتبه علينا". يضيف: "بنَضف زبالة الناس وفي الآخر بيشتموني ويقولوا لي كلام جارح، مش حاسين اني إنسان زيهم، كلامهم بيخلي الواحد تصعب عليه نفسه، بس احنا مبنردش على حد وبنقول حسبي الله ونم الوكيل فيهم"، ويكمل: "الناس أنواع وأشكال، منهم اللي بيحدف زبالته من البلكونة، وفي ناس بترمى زبالتها في وشنا وهم راكبين عربياتهم، وفي ناس قمة الاحترام". بينما يقول عثمان، 46 عاما، عامل نظافة: "حلمي اني اتنقل للعمل في محافظتي، عايز ابقى جنب ولادي وزوجتى وأهلي، بدل السفر كل يوم في القطر والبهدلة في الطريق". عثمان، قضى 23 في مهنة عامل النظافة، يتجول في شوراع منطقة السيدة زينب بين أزقتها وميادينها، لطالما كانت الشوارع تشكو له إهمال روادها، كون صداقات بين الباعة وأصحاب المحلات لطبيعة عمله واختلاطه بغيره من العمال والتجار، يقول "أنا عشت مع الناس دي أكتر ما عشت مع أسرتي.. أنا عايش مستور وعايز الناس تذكرني بالخير في حياتي ومماتي". ببساطته وعفويته، يجيب عثمان، على سؤال ماذا ستفعل لو أصبحت رئيسا لمصر لمدة يوم، فيقول "أنا هعمل اللي يرضي ربنا ويوافق عليه الناس، وهختار أحسن ناس عندها تفكير لمصلحة البلد يساعدوني، ولازم يكونوا كويسين ويتقوا ربنا في الناس، ولازم اعمل كل حاجة تخلي الشعب كله يبقى راضي، احنا عايزين تبقي مصر كويسة عايزين نحس ان احنا عايشين في بلدنا، لو بقيت رئيس هعمل حاجات كتير، زي إسكان الغلابة ووظايف للشباب اللي عطلان". يبدأ أحمد السيد، عامل نظافة بمنطقة السيدة زينب، يومه في الرابعة صباحا، على صوت دقات المنبه الذي أصبح يشكل جزءا من حياته اليومية المعتادة، يسافر إلي مقر عمله بالقاهرة، وبملامح أرهقتها الأيام والمهنة يستعد للعمل، بعد انقضاء 3 ساعات في السفر من محافظته إلى مقر عمله بالقاهرة، ببرنيطة يضعها على رأسه لتقيه حرارة الشمس الملتهبة، والعفريتة التي تميز عامل النظافة عن غيره من الناس. حفظ شوارع المنطقة التي يعمل بها عن ظهر قلب، عاش معها حرارة صيفها وبرودة الشتاء بها، "الشوارع أخدت من جلدنا رقات" كما يقول أحمد البالغ من العمر45 عاما، من مواليد المنوفية، ويتابع: "أنا بقالي 20 سنة شغال عامل نظافة وعندي 4 أولاد أكبرهم طالبة بالصف الأول الإعدادي، وبسافر كل يوم للقاهرة، والسفر يحتاج كل يوم 30 جنيها، ويا دوبك اللي جاي على قد اللي رايح". حاصرته الأمراض وأصبحت جزءا من حياته، يقول: "ورثنا من الشغلانة دي الأمراض، حساسية على الصدر وربو، وعلاج التأمين الصحي مبيعملش حاجة، بضطر اكشف في عيادة خاصة والمرتب مش بيكفي، لما كان في صحة كنت بقدر أسافر لكن الوقتي خلاص، الصحة ضاعت ومبقتش حمل تنطيط وبهدلة، والسكن هنا غالي وأنا مش عندي مكان أسكن فيه، والحل اني أنام في العشة اللي احنا عاملينها، بس محدش بيرضى ينام فيها علشان بيطلع علينا الحرامية يسرقونا وياخدوا اللي معانا"، ويتابع: "تقدمت بطلبات كتير لنقلي إلي المحافظة وكان رئيس الهيئة بيرفض". "أهم حاجة في البلد تحسين وضع الناس التعبانة، اللي هم الفئة بتاعتنا دي واللي زيها، ونخلي الناس تبقى راضية اللي مش عارفين يعيشوا ولا يعلموا ولادهم كويس، المرتبات تعبانة، ولازم تبقى كل الناس متساوية، ويتوفر إسكان للغلابة، والناس تشتغل وخصوصا الشباب اللي مش لاقي شغل، وكمان لازم الناس اللي بتدير البلد يتقوا ربنا في الشعب". وعلى أحد أرصفة شارع المبتديان، جلس أحد عمال النظافة، بدت علي وجهه علامات الإرهاق، رغب عن الحديث عن أحوال العمل، وبعد عدة محاولات وافق على توجيه رسالة إلى المسؤولين، إلا أنه لم يستطع الحديث، وقال "الكلام معدش منه فايدة، وإيه اللي هيحصل لو اتكلمت وقلت عندي إيه؟".