كنا أيام مبارك نشكو وجود 23 حزباً مسجلاً و مشروعاً، و لا وجود فعلي لها في الشارع, بما في ذلك الحزب الوطني الحاكم, الذي كان الأكثر غيابًا, حتى أنه كان يحكم البلاد دون أن يفوز بأغلبية برلمانية فعلية (رغم التزوير الفاضح المبين) بل بضم من فازوا مستقلين إليه ليتخطى نسبة الثلثين, كانت أحزاباً كرتونية بحق ولا وجود لها ولا أثر. وكانت الحجة الجاهزة نظام مبارك يكبت حرية الأحزاب، ويمنعها من العمل في الشارع, وكان هذا الإتهام لمبارك وأجهزته الأمنية ورجاله ليس فقط حجة لتبرير الفشل، بل حجة أيضا لتبرير الجلوس بلا عمل, حتى تحولت الأحزاب في النهاية (ولي في هذا تجارب شخصية) مجرد مقاهٍ للمسامرة والنميمة، وافتعال خلافات ساذجة بين أصفار لا وجود لها ولا أثر . قامت ثورة 25 يناير ورحل مبارك ورجاله –أو تواروا عن المشهد قليلاً- ولم يعد للأحزاب حجة, فالطريق مفتوح ولا مطاردات ولا تقييد للحريات, الشارع للجميع والمظاهرات متاحة, لكن لا حس و لا خبر, ظهرت عشرات الأحزاب الجديدة مع استمرار القديمة, و لم نستفد شيئا سوى إضافة أصفار جديدة على الأصفار القديمة, لم نلحظ نشاطًا ولا زيادة في الشعبية لأي منها, طبعًا باستثناء الأحزاب الدينية، التي يمكن إرجاع حضورها للدين ذاته لا للسياسة. تناسى الفشلة أيام مبارك وما تلاه أن هناك بالفعل تيارات سياسية لها وجود فعلي بالشارع, حتى لو كان حضوراً محدوداً, كالإخوان المسلمين وشباب 6 أبريل و غيرهم . الحقيقة ورغم وجود حضور فعلي للتيارات السالف ذكرها لكن العمل السياسي و الحزبي –المشروع و غير المشروع- كان ولا يزال محدودا للغاية؛ لأن الشارع المصري لا يرغب في العمل الحزبي, فرغم ولع المصريين بالسياسة و الحديث فيها, على طريقة جنرالات المقاهي, لكنهم يكرهون الانضواء والانتظام تحت مظلة تحدد لهم تحركاتهم وتنظم حركتهم. يتحرك المصريون بحب وصدق وتفاعل في ظل زعيم محبوب يؤمنون به وبمبادئه، لأجله فقط لا اقتناعاً بالمبدأ, و هكذا تفاعل المصريون مع عرابي وثورته (عرابي ومع كامل احترامي له كان جاهلاً أحمقاً قاد البلاد بجهله للهاوية) فضحوا بحياتهم لأجله, و هكذا تفاعلوا مع مصطفى كامل وحزبه, وهكذا تفاعل المصريون مع سعد زغلول فثاروا لأجله وماتوا عن طيب خاطر, ذلك الشعب الذي وسموه ظلماً بأنه شعب خانع يثور، و هكذا اَمن المصريون بجمال عبد الناصر, فخرج الشعب بصدور عارية يواجهون العدوان الثلاثي. والحقيقة أن كثير من هؤلاء الزعماء لم يكونوا على قدر الثقة التي أولاها لهم المصريون, فمنهم من أغرق البلاد بجهله وعدم كفاءته, ومنهم تراجع و قبل ما لا يمكن قبوله. وربما كان غياب زعيم واضح وله كاريزما طاغية هو أحد الأسباب الرئيسية للكبوة التي تعرضت لها ثورة 25 يناير, فلم تنجح الثورة في خلق زعيم يبني حزباً ينتظم فيه المصريون عن حب و إيمان, فحتى تنظيم الإخوان القوي (وهو التنظيم السياسي الوحيد في مصر الذي نجح في بناء نفسه على أفكار و مبادئ, لا أشخاص وزعامات) انكشف سريعاً وتحطمت شعبيته لفترة طويلة قادمة؛ لما تعامل المصريون معه على أرض الواقع ورأوا زعماءه و أساليب تفكيرهم, و طرق تعاملهم مع مختلف الأمور والقضايا . أما في المرحلة الراهنة، التي هي فترة للريبة والحيرة, فيوجد ولا شك زعيم, لكنه زعيم الضرورة لا زعيم القلوب, يؤمن به المصريون ويدعمونه بصدق و بتفاعل حقيقي, لكن للأسف ليس حباً بل خوفا من القادم، الذي يهدد وجودنا وسلامنا. لا يوجد برلمان ولا عمل حزبي ولا يشعر المصريون حيال ذلك إلا بالراحة والهدوء, فقد أدرك الشعب الضارب بجذوره في التاريخ أن تلك الأمور لا قيمة لها في هذا الزمان, بل الأولوية للأمن وتثبيت الوجود المهدد في ظل فوضى لا يعلم نهايتها الا الله سبحانه.