حارَ الفلاسفة منذ قرون طويلة إلى يومنا هذا، في إيجاد منهجية للتفرقة بين الأفكار العلمية واللاعلمية، من حيث الحجية المعرفية لكل منهما ومدى دلالاتها على الحقيقة، وبقدر ما تنوعت مدارس فلسفة العلوم على مدار تلك القرون بقدر ما تعددت تلك المعايير وتباينت مع ذلك الفجوة التي تفصل العلم عن اللاعلم. صدر حديثًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، في مشروع مكتبة الأسرة، ضمن إصدارات سلسلة الثقافة العلمية، كتاب بعنوان "التمييز بين العلم واللاعلم.. دراسة في مشكلات المنهج العلمي»، للدكتور محمد أحمد السيد. ينقسم الكتاب إلى أربعة فصول، الفصل الأول يتناول الجذور التاريخية لفكرة التمييز بين العلم واللاعلم، والفصل الثانى يتناول التمييز بين العلم واللا علم عند كارل بوبر، أما الفصل الثالث فيتناول اضمحلال دور القابلية للتحقق والقابلية للتكذيب، وأخيرًا الفصل الرابع يتناول مستويات التمييز كمعيار جديد للتمييز بين العلم واللاعلم. بالنسبة لكارل بوبر (1902/ 1994)، المولود في فيينا بالنمسا من أصل بريطاني، اهتم بعلوم عديدة، منها الطب والرياضيات وعلم النفس والفلسفة، إلا أن ميوله العلمية كانت متركزة بالضبط على التمييز بين: العلم الحقيقي والعلم الكاذب، درس في بريطانيا وسافر إلى أمريكا، حيث كان أبرز حدث في حياته، إذ تمكن من لقاء أينشتاين، الذي ناقشه في ثلاثة لقاءات، فلم يستطع امتلاك مشاعره تجاه هذا الرجل معترفا بإعجابه به وتأثيره القوي فيه. ولبوبر كتاب شهير ألفه سنة 1934 مترجم للعربية بعنوان "منطق الكشف العلمي"، الذي وجه فيه نقدا للوضعية المنطقية، خاصة تلك المتمثلة في "حلقة فيينا" الرافضة لكل ما ليس تحته خط تجربة، محاولا إرجاع بريق الميتافيزيقا المهاجمة، كما له كتابان في السياسة وهما: "المجتمع المفتوح وأعداؤه" و"عقم المذهب التاريخي" الذي يبرز توجهه الليبرالي وخصومته الكبيرة لماركس والشيوعية. وتجدر الإشارة إلى أن أطروحات كارل بوبر السياسية تأخرت في الدخول إلى العالم العربي، ويرجع ذلك ربما إلى أن حقبة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات عرفت هيمنة للفكر التاريخاني الذي هاجمه كارل بوبر في وقت مبكر. بعد النجاحات الكبرى التي حققها العلم بدءا من الزمن الحديث خاصة مع نظرية التجاذب الكوني لنيوتن (القرن 17م) باعتبارها أول معمار ذهني ورياضي صارم يجمع شمل قوانين السماء بقوانين الأرض، بحيث سيصبح سقوط التفاحة لا يختلف عن دوران القمر، المسألة فقط مرتبطة بمتغير الكتلة والمسافة. فالقمر الاصطناعي مثلا يمكن أن يسقط كما يمكن أن يدور، وهو الأمر الذي كان يبدو مستحيلا في الزمن القديم، حيث كان عالم السماء مختلفا عن عالم الأرض جذريا. هذا النجاح سيجعل العلم محط تقدير، بل ستصبح لفظة علم سحرية ومغرية، حيث الكل سيتهافت ويتودد نحوه، ويقدم خطابه على أساس أنه منتج علمي، إلى درجة الخلط والالتباس، وهو ما دفع عديدا من العلماء والإبستمولوجيين في القرن العشرين إلى طرح السؤال الآتي: ما هي مقاييس ومعايير علمية الأفكار؟ كيف يمكن رسم الحدود الفاصلة بين عالم العلم وعالم اللاعلم؟ كيف نضمن أن أفكارنا تنتمي إلى حظيرة العلم وتستحق هذا اللقب؟ هل من مصفاة من خلالها نفرز ما هو علمي عما هو ليس علميا؟