فى ظل الدستور وعقيدة القاضي، وفى ظل البلدان التى تريد ترسيخ العدالة والقانون وتسعى جاهدة لاحترام حقوق الإنسان وآدميته، يظل "المتهم بريء حتى تثبت إدانته" في محاكمة قانونية فى ظروف طبيعية عادلة، تكفل له ضمانات الدفاع عن نفسه. لكن فى ظل حجة الحبس الاحتياطى أصبح "المتهم مدان حتى تثبت براءته". وعلى الرغم من الرفض العارم لفكرة الحبس الاحتياطي على مدار السنوات الماضية فى ظل دستور 71، ظل هذا الرفض مع الدستور الجديد الذى مد من فترة الحبس الاحتياطي، والذى رفضه عدد من الحقوقيين والنشطاء؛ لأنه يعد أحد الأساليب القانونية لاحتجاز عدد من السياسيين تحت مظلة قانونية تتحكم في حريتهم. دستور (71) و(2013) والحبس الاحتياطى شرع دستورا مصر (71) و(2013) الحبس الاحتياطى، وربطاه بقانون الإجراءات الجنائية الصادر بالقانون رقم (150) لسنة 1950 بشأن مادة الحبس الاحتياطي، كما نصت المادة (54) من باب الحقوق والحريات بدستور (2013) على أن "الحرية الشخصية حق طبيعى، وهى مصونة لا تُمس، وفيما عدا حالة التلبس، لا يجوز القبض على أحد، أو تفتيشه، أو حبسه، أو تقييد حريته بأى قيد إلا بأمر قضائى مسبب يستلزمه التحقيق". وأكدت المادة نفسها أن القانون ينظم أحكام الحبس الاحتياطى ومدته وأسبابه وحالات استحقاق التعويض الذى تلتزم الدولة بأدائه عن الحبس الاحتياطى، أو عن تنفيذ عقوبة صدر حكم بات بإلغاء الحكم المنفذة بموجبه. وفى جميع الأحوال لا يجوز محاكمة المتهم فى الجرائم التى يجوز الحبس فيها إلا بحضور محامٍ موكل أو منتدب. حيث نص قانون (150) لسنة 1950 والذى ينظم الحبس الإحتياطى على أن المادة (142: فقرة أولى) تنص على أن "ينتهى الحبس الاحتياطى بمضى خمسة عشر يومًا على حبس المتهم، ومع ذلك يجوز لقاضى التحقيق، قبل انقضاء تلك المدة، وبعد سماع أقوال النيابة العامة والمتهم، أن يصدر أمرًا بمد الحبس مدداً مماثلة، بحيث لا تزيد مدة الحبس فى مجموعها على خمسة وأربعين يومًا". فيما نصت المادة (143: فقره أخيرة) على أنه "لا يجوز أن تزيد مدة الحبس الاحتياطى على ثلاثة أشهر، ما لم يكن المتهم قد أعلن بإحالته إلى المحكمة المختصة قبل انتهاء هذه المدة. ويجب على النيابة العامة فى هذه الحالة أن تعرض أمر الحبس خلال خمسة أيام على الأكثر من تاريخ الإعلان بالإحالة على المحكمة المختصة وفقاً لأحكام الفقرة الأولى من المادة (151) من هذا القانون لإعمال مقتضى هذه الأحكام، وإلا وجب الإفراج عن المتهم. فإذا كانت التهمة المنسوبة إليه جناية، فلا يجوز أن تزيد مدة الحبس الاحتياطى على خمسة شهور، إلا بعد الحصول قبل انقضائها على أمر من المحكمة المختصة بمد الحبس مدة لا تزيد على خمسة وأربعين يومًا قابلة للتجديد لمدة أو مدد أخرى مماثلة، وإلا وجب الإفراج عن المتهم. وفى جميع الأحوال لا يجوز أن تجاوز مدة الحبس الاحتياطى فى مرحلة التحقيق الابتدائى وسائر مراحل الدعوى الجنائية ثلث الحد الأقصى للعقوبة السالبة للجريمة، وبحيث لا يتجاوز ستة أشهر فى الجنح وثمانية عشر شهراً فى الجنايات وسنتين إذا كانت العقوبة المقررة للجريمة هى السجن المؤبد أو الإعدام. تعديل قانون الحبس الاحتياطى للالتفاف على الدستور في نهاية سبتمبر 2013 قبل رئيس الجمهورية المستشار عدلي منصور مسودة التشريع التي أعدها وزير العدل الأسبق عادل عبد الحميد بتغيير نص الفقرة الأخيرة من المادة (143) من قانون الإجراءات الجنائية، والتي كانت تنص فيما سبق على أن "مدة الحبس الاحتياطي في مرحلة النقض للمحكوم عليهم بالإعدام أو السجن المؤبد لا تتجاوز السنتين"؛ لتصبح "يجوز لمحكمتي النقض والجنايات أن تأمرا بحبس المتهم احتياطيًّا لمدة 45 يومًا قابلة للتجديد" دون التقيد بالمدد المنصوص عليها في المادة (143). وأصبح الحبس الاحتياطي بعد هذا التعديل مفتوحًا وغير محدد المدة في الجرائم التي تصل عقوبتها إلى المؤبد أو الإعدام، إلا أنه ظل مقيدًا بأن تكون المحكمة هي التي تتخذ قرار الحبس الاحتياطي المفتوح، إما محكمة الجنايات أو محكمة النقض. ولذلك نجد أن العدد الهائل من المتهمين المحبوسين احتياطيًّا مفتوحًا وممتدًّا يفسر حبسهم تكرار نمط من الاتهامات لهؤلاء المحبوسين، يجعلهم متهمين أمام محكمة الجنايات في جرائم قد تصل عقوبتها للإعدام أو المؤبد، وبالتالي يصبح الحبس الاحتياطي الممتد والمفتوح "قانونيًّا" طبقًا لهذا التعديل. الاتفاقات الدولية: البراءة هي الأساس.. وفى مصر العكس المادة (9: 1) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والمادة (6) من الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، والمادة (7: 1) من الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان، والمادة (5: 1) من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، جميعها تضمن حق الشخص في الحرية والأمان، وأن حرمان الأشخاص ظلماً من حريتهم وفرض تقييدات مادية عليهم في ظروف شاقة يعتبر في حد ذاته منافياً لمبادئ ميثاق الأممالمتحدة وللمبادئ الأساسية المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي تضمنت المادة (3) منه الحق في الحرية والحياة والأمان على الشخص، مما يعني أن الدول التي تحترم الإنسان ملزمة قانونيًّا بتأمين حق الشخص بأن تحترم حريته وأمنه. القانون يجيز بعض التدابير.. ولكن السلطة تتعنت أكدت الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان من خلال تقرير وافٍ عن الحبس الاحتياطى أنه على الرغم من أن القانون أجاز للسلطة المختصة الحبس الاحتياطى، إلا أنه أعطى الحق في أن تصدر بدلاً منه أمرًا بأحد التدابير الآتية: - إلزام المتهم بعدم مبارحة مسكنه أو موطنه. - إلزام المتهم بأن يقدم نفسه لمقر الشرطة فى أوقات محدودة. - حظر ارتياد المتهم أماكن محددة. إلا أنه في الغالب لا يتم التطرق إلى تلك التدابير، سواء كان من النيابة العامة أو من قضاة المحاكم. الكيل بمكيالين.. حالات تستوجب الحبس الاحتياطي ولم يتم حبسها رصدت الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان العديد من حالات الكيل بمكيالين في التعامل مع الحبس الاحتياطي، عقب ثورة 25 يناير، لا سيما الضباط المتهمين بقتل الثوار، أو رموز نظام مبارك، حيث إنه ورغم اتهامهم بإرتكاب جرائم خطيرة في أغلب الأحيان، لا يتم حبسهم احتياطيًّا أو حتي عزلهم من وظائفهم العامة، وذلك رغم توافر وانطباق شروط الحبس الاحتياطي عليهم، وذلك للأسباب الآتية: - توليهم وظائف عامة تمكنهم من العبث بالأدلة والتأثير على سير التحقيقات. - تمتعهم بالنفوذ الكافي الذي يمكنهم من التأثير على الشهود أو المجني عليهم. - تمتعهم بالنفوذ الكافي الذي يمكنهم من الهرب خارج البلاد. ولا أدل على ذلك من حالة ضباط وأمناء قسم شرطة إمبابة الذين كانوا متهمين بقتل المتظاهرين على ذمة القضية رقم (3410) لسنة 2011 جنايات مركز كرداسة، والتي تعرض خلالها العديد من أهالي الشهداء لضغوط من قِبَل بعض الضباط المتهمين، وصلت لحد تهديدهم بالحبس؛ مما أدى بأحد الشهود، ويدعى أحمد إبراهيم أحمد شاهد الإثبات إلى تغيير شهادته، ثم قدم بلاغًا بعد تغييرها إلى النائب يحمل رقم (22210) لسنة 2011 بلاغات النائب العام، وقد تقدم والد الشهيد محمد سيد عبد اللطيف في القضية ببلاغ للمحامي العام لنيابات شمال الجيزة بواقعة التهديد والمساومة للتنازل، وحمل رقم (183) لسنة 2011 عرائض/ محامي عام شمال الجيزة. وعقب عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي في 3 يوليو 2013، وإجراء التعديل على المادة (143) من قانون الإجراءت في شهر سبتمبر من نفس العام، عادت ظاهرة الكيل بمكيالين تطل برأسها بشكل واضح وأشد، حيث يحاكم العشرات من رموز نظام مبارك والمتهمون بالفساد والكسب غير المشروع وهم مطلقو السراح أو عقب حبس احتياطي قصير، وكذلك بعض الضباط المتهمين في جرائم قتل أو تعذيب، في حين يقبع الآلاف من جماعة الإخوان المسلمين أو الداعمين لهم، وكذلك من الشباب الداعمين للديمقراطية، لشهور طويلة، تكاد تصل لعامين بالنسبة لبعضهم، بسبب اتهامهم بالاتهامات الشائعة السابق ذكرها. أمثلة لقضايا الفساد والكسب غير المشروع والتعذيب مستبعدة من الحبس الاحتياطي المفتوح - المتهمان بتعذيب محامٍ حتى الموت: عمر حماد ومحمد الأحمدي ضابطان بقطاع الأمن الوطني اتهما بتعذيب المحامي كريم حمدي حتى الموت داخل قسم شرطة المطرية بالقاهرة في 24 فبراير 2015، في القضية رقم (1550) لسنة 2015، وتم إلقاء القبض عليهما في 26 فبراير عام 2015، وإخلاء سبيلهما بكفالة مالية في 28 مارس 2015. - المتهم زكريا عزمي: بعد إخلاء سبيله من محكمة شمال القاهرة في 13 فبراير 2013، بعد قبول محكمة النقض الطعن المقدم منه على الحكم الصادر بسجنه 7 سنوات في قضية الحصول على هدايا تبلغ قيمتها ملايين الجنيهات من مؤسسة الأخبار والأهرام، والمتهم فيها بالكسب غير المشروع، تم فتح تحقيق جديد مع زكريا عزمي رئيس ديون رئيس الجمهورية أثناء حكم مبارك بتهم الاستيلاء والتربح والإضرار العمدي بالمال العام إثر حصول رئاسة الجمهورية علي هدايا باهظة الثمن من مؤسسات صحفية قومية ووزارة الإعلام، وتم إخلاء سبيله في تلك القضية بضمان محل إقامته. أمثلة لاستخدام الحبس الاحتياطي المفتوح كعقوبة للمعارضين: - أحمد أيمن: طالب فى أكاديمية طيبة سنة أولى نظم معلومات، عمره 20 عامًا، تم القبض عليه صباح 30 يونيه عام 2013. ورغم أنه مصاب بخمس طلقات خرطوش فى رجله ويده ورقبته وبطنه وصدره أثناء مظاهرات الاتحادية المناهضة لجماعة الإخوان فترة حكم الرئيس المعزول محمد مرسي، إلا أنه متهم بالانتماء لجماعة الإخوان وحيازة و تصنيع متفجرات، وتمت إحالة القضية للمحكمة منذ شهور، ولم تحدد جلسة بعد، وما زال محبوسًا على ذمتها 23 شهرًا حتى الآن، ولم يتلقَّ العلاج المناسب لحالته. - محمود حسين: طالب ثانوى، عمره لا يتجاوز 19 عامًا، تم القبض عليه في كمين المرج فى الذكرى الثالثة لثورة يناير (25 يناير 2014) مرتديًا تي شيرت مكتوبًا عليه "وطن بلا تعذيب" وشالاً مكتوبًا عليه "ثورة 25 يناير"، وما زال محبوسًا احتياطيًّا منذ عام كامل وخمسة أشهر على ذمة القضية رقم (715) لسنة 2014 إدارى المرج، كما فقد المتهم حقه في حضور جلساته المقررة أو حتى للإقرار على عمل استئناف على أمر تجديد حبسه، وذلك تحت مسمى "تعذر نقل المتهمين لدواعٍ أمنية". - إبراهيم اليماني: أحد أطباء المستشفى الميداني أثناء ثورة 25 يناير، وأثناء اعتصام رابعة العدوية، كان من بين المحاصرين في مسجد الفتح برمسيس، حيث كان يساعد الجرحى والمصابين. أضرب اليمانى عن الطعام مرتين، كانت المرة الأولى في 25 ديسمبر عام 2013، واستمرت لمدة 89 يومًا، واضطر لفك الإضراب بسبب تعرضه للتعذيب، حسب قوله. وبدأ إضرابه الثانى في 17 إبريل عام 2014، وما زال مستمرًّا حتى الآن لأكثر من عام كامل، مع تجاهل تام من السجن تجاه تدهور حالته الصحية، وما زال محبوسًا حتى الآن احتياطيًّا. - محمود عبد الشكور أبو زيد "شوكان": مصور صحفى، تم إلقاء القبض عليه منذ فض رابعة فى عام 2013، وحتى الآن لم تتم محاكمته ولا الإفراج عنه. الحبس الاحتياطي اعتقال إداري أكد الحقوقي كريم عبد الراضي أن التوسع في الحبس الاحتياطي الممتد، بعد التعديل القانوني الذي تم في عام 2013، خلال حكم الرئيس المؤقت عدلي منصور، أصبح أشبه بالاعتقال الإداري، اعتمادًا على نمط شائع من الاتهامات التي يتم توجيهها للمعارضين في مصر، وتسمح بالحبس الاحتياطي الممتد. وأضاف أن هناك مجموعة من التهم تكرر فى عدد كبير من القضايا؛ حتى تقنن حالة الحبس الاحتياطى، مثل: الانضمام لجماعة أسست على خلاف أحكام القانون، والغرض منها عرقلة مؤسسات الدولة من مباشرة عملها، والمساس بالحريات العامة، وتكدير الأمن العام، وزعزعة استقرار البلاد، بجانب التظاهر والتجمهر بغرض الإخلال بالأمن العام والنظام العام وتعطيل الإنتاج، والتأثير على سير العدالة، بالإضافة إلى التحريض على مقاومة السلطات العامة والتحريض على العنف. وكشف عبد الراضي عن أن تلك التهم يتم وضعها فى سير القضية؛ حتى يتم شرعنة تكرار حبسه على ذمة القضية فقط لا غير، حتى وإن كان ليس لها أساس من الصحة. مؤكدًا أن الحبس الاحتياطى تم تعديله فقط؛ لتطبيقه على الخصوم السياسيين للنظام، وليس له علاقه بالقانون وتطبيقه، مشيرًا إلى بعض الأمثله من رجال مبارك الذين كانوا يحاكمون على قضايا فساد وإهدار مال عام وقتل متظاهرين، وتم محاكمتهم بعد أن أخلي سبيلهم، فى المقابل نجد هناك عددًا كبيرًا من الشباب يتم تجديد حبسهم الاحتياطى؛ بسبب تي شيرت أو تظاهرة سلمية أو بالونات وغيرها من الأشياء. ومن جانبه قال الحقوقي محمد صبحي إن القانون قديمًا كان يحدد الحبس الاحتياطي بستة أشهر كحد أقصى، يتم خلالها إحالة المتهم للمحاكمة أو إخلاء سبيله، ولكن التعديل التشريعي الذي أصدره الرئيس المؤقت عدلي منصور بعد قرابة شهرين من الإطاحة بالرئيس محمد مرسي أتاح تجديد الحبس الاحتياطي دون حد أقصى، وبالتالي تحول لعقوبة قد تمتد لفترات طويلة. وأضاف "الآن يتم تجديد حبس المسجونين سياسيًّا مدة بعد أخرى لشهور عديدة تحت ذريعة استكمال التحقيقات، وبذلك تصبح السلطة قد استبدلت الحبس الاحتياطي بالاعتقال وقانون الطوارئ بالتظاهر".