حين تدخل إلي الساحة الخليلية بميدان النحَّال بمدينة الزقازيق، يتراءى إليك مسجد كبير ترتفع فوقه المآذن العالية، وإلي جوار المسجد الكبير منزل صغير، ترتفع فوقه صورة لرجل يبدو مهيبا وخلوقا في نفس الوقت، تعلو صورته الشخصية آيةً من آيات الكتاب الكريم "القرآن" ومكتوب تحت اسمه نقيب الأشراف بالزقازيق (أي نقيب المنتسبين للرسول الكريم) بالإضافة إلي وصفه بأنه رئيس جمعية خيرية (إسلامية)، وكلما اقتربت يتلاحظ إليك تجمع المئات من كل الأعمار، ما بين رجال ونساء وشبان وشابات وأطفال؛ من كل لون ولهجة وثقافة، يترددون علي المسجد في كل وقت، في وقت الصلاة وبين الصلاة والصلاة، كما يترددون علي البيت الصغير المجاور للمسجد، تجمعهم صفة واحدة، مسبحة ذات عدادات من الخيوط، تشير إلي الزهد -أو حتي قُل التزهد- وأكثر الكلمات تكرارا في أحاديثهم (عمي) يقصدون الشيخ صالح ابو خليل. البيت مفتوح للجميع، يقدم وجبة الغذاء بين صلاتي العصر والعشاء لكل هؤلاء الضيوف من كل محافظات الجمهورية، ولو وصلت أعدادهم لعشرة آلاف. يرددون جميعا علي مسبحاتهم نفس الكلمات، يقال عنها (الوِرد)، والوِرد كلمات يكررها المريد عددا من المرات يوميا، وهذا هو المألوف في الطرق الصوفية كافة، هذا الوِرد يعلمه الشيخ لمريديه وأحبابه، لا يختلف في الطريقة الخليلية عن مثيله في أي طريقة أحمدية -أي تنتسب إلي مدرسة السيد أحمد البدوي- ولا في مضمونه عن أية طريقة صوفية عموما، فهو يتسم بثلاث سمات رئيسية هي: تسبيح الله بأسمائه، واستغفاره، والصلاة علي نبيه المصطفي. أنت لا تستطيع الدخول إلي هذه الغرفة الصغيرة الضيقة ذات البابين التي يجلس فيها الشيخ علي كرسيه التقليدي القديم (الكلاسيكي أو ستيل كما يسميه البعض)، فشدة الزحام وصعوبة تنظيمها بواسطة لواءات شرطة متقاعدين وبعض الشباب المتطوعين تمنعك من الدخول بسهولة، خاصة لو لم يكن أحدهم يعرفك شخصيا، أو بدا لديه ريبةً في هويتك، فيبدأ بالتعرف عليك، والمعتاد أن يطلب منك اسم خليفة الشيخ في محافظتك، ولكل شيوخ الطرق خلفاء -أي نواب- بالمحافظات؛ معروفون لهؤلاء الشباب المتطوعين، وهذه الإجراءات الأمنية البسيطة وغير المعقدة، لا تتعرض لها إلا إذا كنت زائرا متطفلاً، أما لو كنت ضيفا علي أحد المريدين، فتكفي جملة واحدة من مضيفك علي الباب لتيسر لك الدخول: معي ضيف، فقط هذه الجملة من كلمتين هي مفتاح المرور من كل هذه الزحام المتهافتة لنظرة في وجه رجل صالح، والسلام عليه. فإذا دخلت إلي غرفته الصغيرة لا تسمع صوتاً يصدر من داخلها، وبرغم كثافة الأعداد في هذه المساحة الضيقة، حتي ما يدور بين الشيخ وأحد مريديه أثناء السلام، فالرجل هادئ الطبع بشوش، لا تفارقه ابتسامته، ولا يتحدث بصوت عالٍ أبدا، ومهما كانت الأسباب، ولو غَضِبَ لا يبدو إلا في عينيه، ولا تستمر نظرته الغاضبة لأكثر من ثانية بلا مبالغة. يعرف كل الحاضرين للسلام عليه بالإسم، وإذا كنت ضيفاً فإنه يلتقيك بحفاوة منقطعة النظير ويوصي بمعاملتك بكرمٍ شديد. الشيخ يختلف عن سائر مشايخ الطرق الصوفية من جوانب عديدة، فهو من ناحية يبدو من أسلوبه ومفرداته أنه عالم لغة، يتحدث الفصحي بيسر وبساطة ودون ثمة تكلف، حتي تكاد لا تفرق بين فصحاه وعاميتنا، وبرغم ذلك لا يخطئ قواعد العربية أبدا. وهو من ناحية أخري يبدو فقيها واثقا، لا يتردد في الإجابة علي استفتاءاتك بأيسر مما يتحدث العربية وبنفس الطلاقة، ثم لا تجد في فتاواه ما يخالف فتاوي الأزهر ودار الإفتاء في حرف واحد. هو في الأصل أزهري متفوق ومثقف، وله كتاب بديع في وصف التصوف باعتباره أصل منهج أهل السنة والجماعة، وفي زَوْدِ الشبهات عن هذا المنهج من بِدَعِ وخرافات الجماعات المتأسلمة المسيئة للدين ورجاله، اسمه "كشف الغطاء عن أهل البلاء" وفيه خلاصة المنهج ومفاتيح الوعي به بأسلوب بسيط وعصري رغم شدة عمقه ودقة فهمه. والمفاجأة المروعة كانت منذ أيام، حين أذاعت إحدي البرامج التليفزيونية فيديو منسوب للشيخ الجليل كما زعمت مذيعة متحذلقة جاهلة أنه يدعي النبوة أو الألوهية؛ لا الكلام منطقي، ولا ما في الفيديو الذي أذاعته متسق، فهو يتناقض مع نفسه، وهي تناقضه وتناقض نفسها، والمفروض أنها تقدم لنا "كلام تاني" فقدمت "كلام تاني خالص" لا نعرفه ولا يفيدنا ولا ينفع مجتمعنا، ولا يأتي من ورائه إلا الأحقاد وإثارة الفتنة والبلبلة، إنه "إعلام الغبرة" الذي لا يتجرأ علي التطرّف الديني الحقيقي خوفا من الرمي بالكفر تارة والتبرج تارة، أو حتي التهديد بالسلاح أو استخدامه في وجه "الأمورة" تارة أخري، ولكن الطعن علي مشايخ الطرق الصوفية بالأكاذيب والافتراءات ليست له عواقب، فهم أهل الله "ناس بتوع ربنا"، إن لم يكن من ورائه منافع الدفع بالدينار والدرهم والريال من براميل النفط المموِّلة للدعوة الوهابية التي قامت علي دماء آلِ البيت وأنصارهم في الحجاز، ولا يزال آلِ البيت وحبهم قضيتها وشغلها الشاغل. ليس أعجب من هذه الحمقاء المتكلفة إلا من يدعون علي أنفسهم المشيخة، وأتحداهم أن يتجرأوا علي مناظرة واحد من مريديه، وقد تلقفوا -والحديث عن بعض المتمشيخين- هذا الفيديو الملفق وكأنه كنز من "مغارة علي بابا" دهب.. ياقوت.. مرجان؛ إنها فرصتهم التاريخية للتربح من الطعن علي آلِ بيت رسول الله عليه الصلاة والسلام. وليس أعجب من إعلام الغبرة ومشايخ النعرة إلا صحافة بليدة انساقت وراء الأكاذيب "وزاطت في الزيطة" بالرغم من أن الشيخ أصدر بيانا يكذب فيه هذا الفيديو ويؤكد فيه التزامه بعقيدة أهل السنة والجماعة واصفا إياها ب" العقيدة الأزهرية الوسطية المعتدلة البعيدة عن التطرّف" ومنتهيا في بيانه إلي "وأفوض أمري إلي الله وحسبنا الله ونعم الوكيل" تعبيرا عن خُلقه وطبعه، بلا مزايدة ولا مكابرة ولا تنطع كتنطع طاعنيه بأسوأ وأقبح ما يُطعن به مسلم موحد. وقد جاء رده في بيانه يليق بالشيخ المربي، الذي يحترم أخلاق سلفه ويتحري الحكمة في تربية خلفه، كريمٌ من سبط نبي كريم. حفظك الله يا مولانا "إن الله يدافع عن الذين آمنوا" ولا نقول إلا كما قلت "حسبنا الله ونعم الوكيل".