الساعات القليلة المقبلة تحسم ماراثون «البوكر»، لتعلن الجائزة العالمية للرواية العربية، من أبو ظبي فائزًا واحدًا من بين 6 تنافسوا على الجائزة، إنها الجائزة السنوية، التي تدعم عددًا من المبادرات الثقافية، والتي أطلقت عام 2009 ندوتها الأولى (ورشة الكتّاب) لمجموعة من مبدعي العرب الشباب المتميّزين. الجائزة تدار بالشراكة مع مؤسسة جائزة "بوكر" في لندن، وبدعم من هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة في الإمارات العربية المتحدة، وفي هذه اللحظات تعرض لكم «البديل» الأقوال الأخيرة لكل مبدع ظهر اسمه في القائمة القصيرة.. الروائي الفلسطيني عاطف أبوسيف: أن تعيش في غزة يعني أن تعيش في نشرة أخبار، هكذا كنت أقول لأصدقائي الأوروبيين حين كانوا يسألونني عن غزة، أن تعرف أنك أداة في ترس صراع كبير لا يمكن لك أن تفلت من عقاله، قصص الناس في المساء يتحلقون أمام عتبات البيوت في المخيم، واسترجاعات الماضي الجميل دائمًا عن قوارب تتهادي أو نسائم تتسلل من خصاص نوافذ البيوت المطلة على بحر لا ينتهي في مدينة لم تنته يومًا من ذاكرتهم: يافا. لا أذكر لحظة معينة بدأت فيها بالكتابة، لكن أذكر شغف الطفل الذي كنته وأنا استمع لقصص جدتي عائشة عن طفولتها وصباها في مدينتها الجميلة يافا، وتنهداتها وهي تسترجع الزمن بطريقة مذهلة، وتعده وتضعه أمامنا ونحن نجلس حول كانون النار نتدفأ من برد الشتاء، كانت قصصها تلك تقلب أوجاعها كما تقلب النار حبات الكستناء التي كان أبي يرمي بها بين جمرات النار، هذا الشغف هو الذي جعلني أمسك القلم وأنا فتى لم أتجاوز منتصف عقدي الثاني وأحاول أن أكتب ما تقول عائشة، كنت أظن أنني أسرق قصصها، لم أكن أعرف أنها قصصي أيضًا. كنت بلغتي البسيطة ومفرداتي الضيقة وخطي ربما السيئ أحاول أن أعيد ما تقوله عائشة، لكنني كنت أدرك أن جمرات عائشة الملتهبة مع السرد لا يمكن لي أن أقبض عليها، ثمة سر خفي فيما كانت تقول، إنه سر التجربة التي عاشتها وخبرتها وانْكَوَت بنارها، وكانت تنهي كل حكاية بتنهيدة لابد أنها تهز الأرض تحت البيت الجميل الذي تركته قرب شاطئ البحر في عروس البحر يافا. كانت عائشة بارعة في رسم يافا، تحفظ الشوراع واماكن سكن الجيران والمستشفي والسوق والمقهى، كانت بارعة في تجسيد ما تروي في بانوراما مشهدية سينمائية. كانت تلك الاستعادات وهذا الإمساك بالماضي يحمل سحراً مؤثراً على مخيلتي. ليس من السهل الهرب من كل ذلك، ليس من السهل ان تجد نفسك خارج سياق المكان والذاكرة وكومة الأحلام المكسرة التي تراها مثل تلال شاهقة خلف عقول الجيران، ولا الشموع المطفأة في أعين الصبية وهم يركضون في أزقة لا تتسع لهرولة أقدامهم وتدافعها نحو المستقبل. كنت أريد أن أكون وفيًا بامتياز لألم عائشة ولدموعها الساخنة كأنها تبكي رحيلها من يافا لأول مرة، كل مرة كنت أظن أنها تبكي للمرة الأولى في حياتها على هذا الزمن الجميل، لكن ما أقسى البكاء حين يتخمر ويعتق، وما أكثر مرارة النفس حين يهبط القلب في قاع سحيق، تحس كأن عربة نقل فغصته كعلبة كوكاكولا على طريق سريع. ثمة ألم لا يحتمل وحكايات تنضح حزنًا وبحثًا عن مستقبل لم يعد ممكنًا بسبب هذا الحزن، كانت ثمة لحظة سردية افتراضية عليك أن تنطلق منها كي تؤسس لحكايات جديدة، لحظة هي كل ما تملك من الذاكرة ومن ذاكرة الآخرين، الذاكرة الجمعية للمخيم وللناس حولك. وكثيراً ما كنت اجد نفسي أسيراً لهذا الألم، مُطالباً بأن أكونه، بأن أعيشه، بأن أخبر عنه، أنت مطالب بالوفاء، الكل يطالبك الوفاء وكل له نسخته عن هذا الوفاء، لكنك مطالب أكثر بأن تلتزم بنصك، بأن تبحث عما يجعل هذا النص السردي تعبيراً حقيقاً عن الناس وفي نفس الوقت حاملاً لقصة البشرية وألمها وأحلامها وضعفها، لصراعها الأزلى بين الخير والشر، ولانحدار الروح البشرية وانبعاثها من رقادها رغم ذلك؛ تجعل من كل ذلك ممكناً بغض النظر عن هوية القاريء. الروائية اللبنانية جنى فواز الحسن: أكتب للكتابة أولاً وربما أخيراً أيضاً، الكتابة، أن تُسأل مراراً عن "الهدف" والرسالة الّتي تريد أن توصلها لمجتمعك، وأن تعيد الإجابة نفسها وتقول أنّك تؤمن بالأدب من أجل الأدب وأنّك لست مصلحاً اجتماعياً، وأنّك لا تملك الإجابات ولا دليل إرشادات حول كيف يجب أن يكون هذا العالم، الكتابة، أن تبحث عن معنى ما لهذا الوجود فلا تجده، وأن تحاول أن تحفظ هذا الأرق بين دفتي كتاب، أن تصبح شخصياتك الّتي تروي عنها حتّى تشعر أنّها حية، أن تحاول أن تجعلها كائنات حيّة، أن تتوهّم أنّك تستطيع، هي الآن هذه الرغبة القصوى بأن تفهم سحرها. أكتب وأنا أعرف جيداً أنّي لا أزال "لا أعرف" ولا أريد أن أعرف، لا لماذا أكتب ولا ما هي الكتابة، أريدها أن تبقى لغزاً، فتبقى جديرة دائماً بكل أسئلتها وتألّقها، أريدها حياةً كاملة. تبدأ الكتابة دائمًا كحالة ذهنية فيما يختصّ الرواية، وتحديداً من سؤال معيّن، في روايتي «طابق 99»، كان سؤالي عن مدى قدرة الإنسان التغلّب على الظروف ورسم مصير مغاير لنفسه وهذا كان سؤال مجد في محاولته أن يتحدّى الصعوبات التي مرّ بها وتحدّي هيلدا في أن تنفصل عن العالم الآتية منه وتجد كيانها الخاص. كنت في أواخر المراهقة تقريباً حين سمعت مذيعاً يطرح سؤلاً على ممثلة آنذاك، كان السؤال: هل الإنسان أقوى أم الظروف؟ أذكر أنّها صمتت لبرهة قبل أن تجيب ولا أذكر ما قالته، رافقني السؤال لسنوات وكنت أتصوّر هذا الصراع بين الإنسان والقدر ومحاولته ككائن بشري ضعيف أن يطوّع الحياة ويحتال عليها لتمنحه بعض السعادة، كان هذا السؤال المحفّز الأوّل لشخصية مجد ولذلك اخترت له ظروفاً قاسية فيها الكثير من الحرمان ورسمته على هذا الأساس. بدأت الكتابة فعلياً حين تصوّري عن الشخوص والأمكنة والعمل بتفاصيله وكنت أدوّن الملاحظات إذا هذا ما أفعله عادةً، حاولت أن أجمع القدر الكبير من المعلومات عن الحقبة التي كتبت عنها لأنّ الحرب بالنسبة لي لم تكن موضوعاً مألوفاً ولا نيويورك مثلاً، بدأت بعدها بالكتابة الفعلية وأكتب عادةً في المساء لساعات متأخرة من اللّيل لأنّه الوقت الذي أكون قد انتهيت فيه من مجمل المهام اليومية، بعد مرحلة التخطيط للكتابة، أجد الشخصيات والأحداث تقود نفسها أحياناً وتأخذ النص إلى آفاق أخرى. الروائية السورية لينا هويان الحسن: الحرية لا تهبط من السماء، بل ينبغي أن تشيّد من الصغائر، ومهمة الأدب الإلتفات إلى الصغائر والتفاصيل في الحياة اليومية التي تؤسس لمجتمع يحترم حرية الفرد، وبالتالي تصل المرأة إلى حقوقها. يأخذ النص الذي تكتبه المرأة أهميته، وتفرده، لأننا نكتب بعد زمن طويل من الصمت، بالكاد خرجنا من الحرملك، والرجل استأثر بتدوين التاريخ وسرده، تأريخًا وأدبًا وشعرًا من وجهة نظره ومن موقعه الذكوري المتحكم بمصير المرأة بذريعة الدين. كان الأدب دائمًا بمثابة انعكاس حسّاس لتجارب عموم البشر، بحيث يمكنه أن يكون وثيقة الكينونة في زمان ومكان محددين، تأريخ مختلق جزئيا يكون المساهمون فيه أبطال مجسدين وفقًا للعصر والموضات والآراء السائدة، ومغروسين في الجغرافيا والزمان والمكان تمامًا على شاكلة الناس من الشارع، في الوقت الزمني الذي يختاره الكاتب لروايته. عندما أكتب، أجعل أبطالي أي الشخصيات الخيالية في المقام الأول، بينما الشخصيات التاريخية تنحصر في المقام الثالث حتى لا أتقيد بحقائق التاريخ، الرواية تنفر من فكرة كتابة التاريخ بحذافيره، هذا شأن خاص بالمؤرخين، بينما الرواية لا تجعل التاريخ نصب عينها، قبل فكرة الرواية، في روايتي "ألماس ونساء" قدمت رؤية كوزمبوليتنية تقوم على فكرة التسامح بين شعوب العالم وحوار الأديان، من خلال حياة نساء سلكن الدروب الوعرة صوب تحقيق أحلامهن. الروائي السوداني حمور زيادة: بدأت كتابة شوق الدرويش في بداية مارس 2011، كان قد مر على روايتي الأولى بضع شهور (نوفمبر 2010)، وشهدت الربيع العربي وملأني حماساً للتغير، كنت أحس أني ممتلئ بالكتابة، وفي تخطيطي أن أكتب رواية تدور في فترة المهدية، بحسب مخطط عام للكتابة وضعته قبل زمن، لكني كنت أبحث عن فكرة مناسبة، وأسلوب لا يحول العمل لبحث تاريخي. لا أقدر أن أحدد من أين أتاني الإلهام، فأنا أحرص على أن أحكي حكاية ممتعة، هذا أمر به كثير من التقدير والمقامرة، لأنك لا تضمن ما هو الممتع للقارئ المجهول لديك، لكن الإلهام آتاني، وعلت عليه واستبدلته أكثر من مرة، حتى خرجت بشكلها النهائي هذا، عقب مسودات كثيرة أحرقتها وملفات حذفتها وتوقف طال. استغرقتني الرواية 3 سنوات، بدأت في القاهرة بذات مسكني المستأجر المتواضع بوسط البلد، وانتهت بذات المكان، كُتب بعضها على أوراق في مقاهي وسط البلد في أوقات ذرة يتضجر من احتجازك فيها لطاولة بالساعات أصحاب المكان، ففي النهاية أنا مريض قرحة لا أقدر أن أشرب أكثر من كوباية أو اثنتين في مجلس مهما طال، وبعضها كتب على الكمبيوتر في الشقة، تبييضاً للمسودات المكتوبة بخط اليد وإضافة وتعديلاً عليها. بدأت العمل على رواية جديدة في يوليو 2014، لكن لا أعرف أين سينتهي بها الحال، ربما لا أرضى عما أكتبه فيها فألغيها وأشرع في أخرى. الروائي التونسي شكري المبخوت: قرأت وأنا شاب عبارة لجبران مفادها "جئت لأقول كلمة وسأقولها"، لا أدري ربّما أعجبتني النبرة النبويّة في ما قال وربّما شدّني إليها التحدّي والإصرار على القول، ولكنّني كثيرا ما أستحضر قول جبران لأسائل نفسي :"بعد كلّ ما كتبته الإنسانيّة من روائع في الأدب والفكر ماذا يمكنني أن أضيف؟". وفي كلّ مرّة أزعم أنّ مجال القول مفتوح فأكتب، بيد أنّ الأمر مع الرواية مختلف بعض الاختلاف، إنّنا حين نسرد الحكايات نتطهّر وننظّم الفكار التي تغلي داخل دماغنا بالإجابة عن أسئلتنا النفسيّة والاجتماعيّة والوجوديّة التي تشغلنا فنكتشف في مرايا السرد وجوهنا والوجوه التي تحيط بنا ونمنح لركام الوقائع التي عشناها معنى ومغزى، الكتابة في ما أتوهّم حاجة أكيدة عندي وليست ترفا، أبرّرها أحيانا بطريقة تحاول أن تكون عقلانيّة موضوعيّة فأدّعي أنّها التزام اخلاقيّ بعذابات الإنسانيّة وبالحريّة، مطلق الحريّة، ولكن الأرجح أنّها عندي معنى حياتي. أشعر فعلا، وهذا وهمي الخاص وأسطورتي الشخصيّة، أنّني مثلما قال جبران جئت لأقول كلمة، وتبدو لي هذه الكلمة مبهمة غامضة لذلك أكتب لأعرف مضمون هذه الكلمة ودلالاتها. روايتي «الطلياني» سيرة، ولكنّها سيرة جيلي الذي عاش اضطرابات الجامعة ومشاكل تونس في الثمانينات من القرن الماضي، وبطبيعة الحال كنت أستلهم، في نصّ اختار أن يكون "واقعيّا" و"اجتماعيّا" إلى حدّ كبير بحكم متطلّبات الموضوع وأجواء الحكاية، جوانب ممّا عشته شخصيّا أو رأيته أو سمعت عنه، ولكنّ الجانب الشخصيّ أو جانب السيرة الذاتيّة في هذه الرواية معدوم وإن هي إلاّ بعض الذكريات أو المواقف الموزّعة على جلّ الشخصيّات الرجاليّة منها والنسائيّة، فما تصدح به زينة مثلا من أفكار وما كانت تواجه به الإيديولوجيّات الشموليّة من اليمين واليسار وما مدحوها به أثناء مناقشة رسالتها الجامعيّة وغير ذلك من التفصيلات هو من ذكرياتي الشخصيّة مع تعديلات وتخييلات تطلّبها السياق الذي وردت فيه، وفي الراوي كذلك جوانب قليلة من شخصيّتي وذكرياتي، ولكن كلّ تلك التفاصيل والذكريات سواء أكانت شخصيّة أو مأحوذة من تجارب من عرفتهم وعاشرتهم لا معنى لها إلاّ في تناسقها وارتباطها بالسياق الروائيّ المتخيّل كلّيّة، فليس كلّ ما عشناه أو رأيناه جديرا بأن يكون مادّة للرواية ما لم يتدخّل الخيال في إعادة صياغته، هذا أمر بديهيّ لا بدّ من استحضاره دائمًا. الروائي المغربي أحمد المديني: أحسب دائمًا أن هناك مشاعر ملتبسة في النفس، وخلفيات ثاوية في الذهن، في العقل، تضطرم وتتفاعل، وتقود الكاتب إلى القول، وتنساق في مسار يتبلور ويتحدد تدريجيا بنَسَق فني، وهمّ إنساني ومجتمعي في آن، أمِيل كثيرا للحسم عندما يسألني أحد "لماذا تكتب؟"، إلى ما قاله الشاعر الألماني ريلكه، وهو يرد على سؤال الجندي كابوس، يسأله النصح والرأي حول شعر أرسله إليه، ويريد معرفة هل من الضرورة أن يستمر؛ جاء رد صاحب مرثاة دوينو مفحِما بما معناه أن عليك أن تسائل نفسك أولا:" هل أنا حقا مضطر إلى الكتابة؟ هل هي مسألة حياة أو موت؟ فإن نعم فواصل، أو فدع". أظن أن هذا السؤال هو ما انفك ريلكه يوجهه إلى نفسه في مساره الشعري الغني والمضطرم، والباحث عن عزلة شبه مطلقة، وانتظارت لا تنتهي، فيا له إذن من سؤال حارق ومستحيل! هل لي أن أضيف بأن كل كاتب أصيل، أي غير عابر سبيل، يرجئ الإجابة على هذا السؤال ليؤجل ميقات موته، ويتحايل بذا على الزمن، ذلك أنه إن أجاب بوضوح سيكون عندئذ قد عرف، وإن عرف ظهر المعنى لديه واكتمل، وكل كمال هو نهاية ، نعم البحث عن الكمال في الجمال مسعى مضطرد لدى الفنان، وهو يؤرقه دائما، ولكنه يعي ويتعذب في أن فيه أيضا فناءه، فليبق في منطقة الالتباس والبحث الدائم، لخَيرٌ من الزوال، من الفناء. من يقرأ روايتي "ممر الصفصاف" سيلفت نظره من مطلعها أن الكاتب يتحدث عن شخص اسمه أحمد المديني، الذي هو اسم المؤلف، وسيلتقي بهذا الإسم لاحقا، في مواقف محددة، وهو شخصية أو سارد، أي غير المؤلف طبعا. وهذه لعبة فنية استخدمتها في روايات سابقة لي، حيث ينتج المؤلف خطابا وضع له النقد مصطلح: "ميتا سرد"، لكني هنا أذهب أبعد في هذه اللعبة، الحيلة، وأتدخل كلسان إضافي لشخصية هي من محاور العمل، وتمثل مركزا من بطولاته، لكني أتحدث من موقع شخصية، تحاور كلبا وتلفت النظر لكينونته، وحقه للوجود، في تنبيه مضمر، ذي طابع تمثيلي، من أجل أنسنته في النهاية، وما يترتب عنها من تبعات، وأتمنى أن أكون قد أفلحت في الوصول إلى تمثيل هذا الوضع وإقناع القارئ به. ولي في هذا التدخل مآرب أخرى.