خلق الله العقل ثم أطلق سراحه في مجرات الفكر ولم يضع له حدًّا، بل حثه على التّفكر والتّدبر في كل شيء؛ حتى يتمكن من الوصول إليه بيقين راسخ، فلم يطرده من رحمته بعد ذلك على ما يعده الآخرون شطحات, ولو كان كذلك لقيده. نظرية الصدور أو (الفيض) التي لم تلقَ اهتمامًا من قِبَل الفلسفة الإسلامية فحسب، بل كانت موضع اهتمام للفلسفة عمومًا، لما لها من أثر بالغ على اليقين والإيمان المحض؛ فأثارت هذه القضية جدلًا واسعًا, وتناولها الكثير من الفلاسفة الإسلاميين فضلًا عن اليونانيين وعلى رأسهم الفارابي وابن سينا وإخوان الصفا الذين اهتموا بها كثيرًا، وكانت النتيجة متوقعة من قِبَل أغلبية الفلاسفة الإسلاميين, وهي التكفير لكل من يطرق لهذه القضية بابًا؛ ولكن كيف لنا أن نكفر إذا كنا نحن الأمثل والأصدق؟ فالله واحد لا شك وقادر لا شك وبتعدد قدرته تتعدد السبل للوصول إليه. تكونت هذه النظرية على يد المعلم الثاني أبي نصر محمد الفارابي، نتيجة لما دار من جدل كلامي وفلسفة حول خلق الله للعالم، ولم يغفل الفارابي نصوص الشريعة التي تقول "كان الله ولم يكن شيء قبله" وهذا معناه أن الخلق جاء من قول الله كن. إن كان ذلك كذلك فإن العالم خلق من العدم، وهذه نقطة تعارض الفلسفة والشريعة معًا، وهنا جاء دور الفارابي ليجلي لنا هذا الغموض. ما تتبناه هذه النظرية من حيث الاعتقاد هو أن الله سبحانه واحد، فكيف ينتج المتعدد من الواحد، وهل هذه الموجودات المتكثرة صدرت عن الله الواحد مباشرة ودفعة واحدة، أم أن هناك وسائط لابد منها حتى تنزه وحدانية الخالق؟ فصدرت نظريتهم إلى القول: إن الواحد لا يصدر عنه إلَّا شيء واحد، غير أن الله سبحانه لا يعقل ما هو دونه، بل يعقل ذاته فقط، وأن عقله بالشيء وعلمه به يقتضي وجوبه تلقائيًّا، دون حاجته للإرادة أو القدرة؛ لأن الله لا شك قادر، ولما كان الله واحدًا لا شريك له، وبسيط لا تركيب فيه، فمقتضى ذلك ألَّا يصدر عنه إلَّا شيء واحد بسيط مثله، فلا يجوز أن يعتقد وفقًا لذلك أن الله خلق هذا الكون المتعدد هكذا بإطلاق. أما من حيث الكونية، ترسي رؤية متكاملة للعالم السماوي والأرضي، رؤية تنبثق مباشرة من الأصول الاعتقادية لنظرية الفيض، التي تقتضي أن الله سبحانه، إنما يعقل ذاته فقط هذا على مستوى الفكر، أما على مستوى الفعل فلا يصدر عنه إلَّا شيء مثله فقط. وهكذا فقد عقل الله ذاته ومن عقله لذاته فاض عنه عقل ثان، ولكن لا يعقل ولا يفكر في الكائنات الأدنى منه، فلم يعقل إلَّا ذاته ففاض عنه عقل آخر مثله، وهذا العقل الآخر كذلك لا يعقل ما هو دونه فعقل العقلَ الذي قبله وعقل نفسه ففاض عنه عقل آخر، وهكذا تواصلت سلسلة الفيض، مرتَّبةً من الأعلى إلى الأدنى درجة وليس طبيعة إذ طبيعتها واحدة وهي أنها أرواح محضة هذا هو العالم السماوي في حقيقته عندهم، والعالم الأرضي فيترتب على عكس العالم السماوي، أي من الأدنى إلى الأعلى، من المادة الأولى إلى العناصر الأربعة، ثم المعادن ثم النبات ثم الحيوان ثم الإنسان. أجمع المؤرخون على أن منبع هذه النظرية أفلوطين, ثم عبر عنها أصحاب الأفلاطونية الحديثة باستعارات وتشبيهات لم تُجل حقيقتها، فجاءت أقوالهم مضطربة حول هذه الفكرة. ظل الأمر كذلك حتى جاء الفارابي مستطيعًا أن يجرد الفيض بطريقة عقلية، وظهر هذا في قوله: "وإن ظهر الأشياء عنه كونه عالمًا بذاته، وبأنه مبدأ النظام الخيَّر في الوجود على ما يجب أن يكون عليه. فإذا علمه علة الوجود الشيء الذي يعلمه". أي أن الله سبحانه لما عقل ذاته صدر العالم من علمه بذاته. أما عن كيفية وجود الموجودات من الواحد فيفسره الفارابي تفسيرًا عبقريًّا في كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة" بقوله: "والأول هو الذي عنه وُجد، ومتى وجد للأول الوجود الذي حوله، لزم ضرورة أن يوجد عنه سائر الموجودات التي وجودها لا بإرادة الإنسان واختياره، على ما هي عليه من الوجود، الذي بعضه مشاهد بالحس، وبعضه معلوم بالبرهان، ووجود ما يوجد عنه إنما هو على جهة فيض وجوده لوجود شيء آخر، وعلى أن وجود غيره فائض عن وجوده هو، فعلى هذه الجهة لا يكون وجود ما يوجد عنه سببًا له بوجه من الوجوه، ولا على أنه غاية لوجود الأول". لهذا الكلمات يُحترم العقل الذي وهبنا الله إياه، فقد استطاع الفارابي أن يثبت مكانة العقل وتنزيه الله وعدم معارضة الشريعة للفلسفة في آن. ورغم أن الفارابي شغل بتنزيه الله سبحانه ويريد لنا أن نكون أمة مفكرة تبحث عن الحقيقة كما أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلَّا أنه كُفَّر من قِبَل الكثير من فلاسفة الإسلام.