لما بلغنا الخبر، اتزحم الباب، وجونا الأحباب، ده يغسل، ده يكفن، ده يعجن كف تراب، وهو كان موصي لا تحمله إلا كتوف إخوان، أكلوا على خوان، وما بينهمش خيانه ولا خوان، وإلا نعشه ما حينفدش من الباب، ما أجمل نومه على كتوف أصحابه.. أصحابه: أحمد سماعين وجوده، الخواجة لامبو، حراجي القط، فاطمة أحمد عبد الغفار، يامنة، عدوية، إبراهيم أبو العيون، سيد طلب، إبراهيم أبو زعزوع، أبو سلمى، أم علي، فتحية أبو زعزوع، سيدة، البت جمالات، محمد عبد المولى، الحاج علي، وسيد طه. استعد «الأبنودي» ليوم كهذا مبكرًا، فاختار باب بيته ومصطبته وعائلته وتوبه ولحم رقبته والكتف اللي تمالي شايله، باختصار كل أؤلائك الذين أبدعهم، ليحملوا نعشه، بعد أن سبقه أصحابه ولم يتمكنوا من تنفيذ الوصية، مثل يحيى الطاهر عبد الله، وأمل دنقل، وخيري شلبي، وفؤاد حداد، ومحمود درويش، وناجي العلي. حقق الخال أمنيته، واجتمع الجميع يوم موته، وكل منهم تحدث عن الأبنودي وحكى عن نفسه كذلك، بدأ الحكي الأسطى حراجي القط، العامل بالسد العالي، أول قنديل يتهز في جوف الدار، الذي حمل -من موقع إنشاء السد العالي- على عاتقه العديد من قضايا المجتمع الريفي، مثل قضية عمل المرأة ونظرة الرجل لها، ومتاجرة البعض بعرق أبناء الريف الباحثين عن لقمة العيش وقوت اليوم، من خلال روايته لما يشاهده في أسوان، منذ أن غادرها على قضبان السكة الحديد بقريته جبلاية الفار، وينتظر من زوجته فاطنة أحمد عبد الغفار رد حكاوي طفليه وأهل القرية. عالم حراجي وزوجته لم يقتصر عليهما وطفليهما وحسب، فلا ننسى طلعت أفندي، مهندس السد العالي، الذي ساعد في نقل الوعي التقدمي لحراجي، وتوسيع مداركه، واتسمت شخصيته بالبساطة والتواضع والعمق السلس، والحاج حسين العكرش، مقاول الأنفار، يجلبهم من القرى الريفية، والملوي وعلي أبو عباس، أصدقاء حراجي وزملاءه في أعمال السد، ولا ننسى مرزوق البسطاوي، عامل البريد، ونظلة أخت حراجي القط، والشيخ قرشي شيخ كُتّاب ابن حراجي. الوقت أعاد نفسه، وجاء الدور على الخواجة لامبو العجوز لينعي الخال كيفما نعاه، لمن لا يعرفه، عم لامبو كان شاعر مغني، أو هو صورة أحمد سماعين في الجانب الآخر من بلاد الله، يمشي والجيتار عشيقته، يلمسه يملي ليل أسبانيا بفصوص الأماني والأغاني البرتقاني، عم لامبو قضى عمره في الحارات والخمارات، أو يمكن هو الخواجة الأسباني الذي ذهب إلى قنا عام 1936 هربًا من الحرب الأهلية الأسبانية، والتي استمرت لمدة 3 سنوات في مدريد، ليستقر في وطن غير وطنه وبلدة غير بلدته، وهي البلدة التي شهدت مولد الخال، فاختاره الأبنودي ليكشف فيها أوجه الصراع بين الأغنياء والفقراء في طبقات المجتمع.. «الوداع يا عمو لامبو/ الوداع يا عمو لامبو/ الوداع يا قطته المرمية جنبه/ الوداع يا قطته المرمية جنبه/ الوداع». "الضباب عمال يضيع/ لجل يدي فرصة للشمس اللي هتزور الربيع"، والربيع ليس بعيدًا عن سيرة إنسان، عن سيرة أحمد سماعين، شاب صعيدي رحل إلى العاصمة، استعرض الأبنودي ما مر به من معاناة طوال حياته الإنسانية البسيطة، وحقه أن يتطلع لتغيير تلك الحياة، ويرجع عمق هذا العمل لكونه تجربة شخصية لمؤلفه الذي غادر قريته أبنود، وسعى نحو القاهرة بحثًا عن التحقق، رغم ارتباطه بالجنوب وجدانيًا، صراع داخلي بين ميله للبقاء في حضن الجبلاية ودروبها ونخيلها وحضن الأهل والأحباب وبين أحلامه وتطلعاته، بين البقاء وبين السفر، يرفضه ويأمله في ذات الوقت.. راحت أيام الضحك خلاص.. لكن ما زالت هنا "يامنة"، آخر حباية في العنقود الأبنودي القديم، هنا لتودعه. المرأة الثانية في حياة الأبنودي بعد الأم فاطمة قنديل، عمته "يامنة"، التي روى حياته معها في قصيدة تحمل اسمها، وتعتبر هي الأشهر بين قصائده لعموم المصريين، بدأت بعتاب العمة لابن أخيها: "والله وشبت يا عبد الرحمن، عجزت يا واد.. ميتى وكيف، أصل اللي يعجز في بلاده غير اللي يعجز ضيف"، الوحيدة التي نصحته "إذا جاك الموت يا وليدي موت على طول، اللي اتخطفوا فضلوا أحباب صاحيين في القلب كإن ماحدش غاب.. واللي ماتوا حتة حتة ونشفوا وهم حيين.. حتى سلامو عليكم مش بتعدي من بره الأعتاب"، وهي الوحيدة التي حفظ نصيحتها ظهرًا عن قلب، واستمع لها. عدوية، ما زالت تحمل ذكراها معه، وتحكي: كان الأبنودي عند الملحن عبد العظيم عبد الحق، فحضرت فتاة قدمت للخال الشاي، سألها: أسمك إيه؟ قالت: عدويه، رد: سأكتب لك أغنية. وكتب الأغنية وأعطاها ولحنها بليغ حمدي. «مش دول بتوع عبد الرحمن الأبنودي بتوع وجوه على الشط، أمال الأبنودى فين؟». في يونيو 1975، قالها «السادات» أثناء افتتاحه لقناةالسويس، حينما نظر إلى الفلاحين على شاطئها. هؤلاء هم إبراهيم أبو العيون، وسيد طلب، وإبراهيم أبو زعزوع، وأبو سلمى، وأم علي، وفتحية أبو زعزوع، وسيدة، والبت جمالات، ومحمد عبد المولى، والحاج علي، وسيد طه، بتوع الأبنودي –بصوت السادات- حاضرين عزاء الخال، حاملين نعشه "ياخدوه لشط الكنال، يشرب الشاي مع رجالة السويس في الغيطان ويشوف الفلاحين وهي رايحة أرضها، يسمع الصواريخ بودانه، ويشهد على الحرب اللي جاية واللي فاتت، يفتكر التهجير والناس اللي سابت بيوتها، والناس اللي مرضتش تفوت السويس لحالها، ويسمع بصوت أخوالنا الجايين حوادويت جديدة عن الإنسان.. ما هو اللي قال أيام ما كان الشط وسعان ويساع، الخلق قليلة ورملة ربنا وسع الشط: أحلى ما يعمل إنسان في حياته يا ولدي يزرع ضل، أحلى ما تحس لما الضل اللي زرعته تشوفه مرمي على وشوش الناس.