محمد مهر الدين، هذا اسمه. فنان الهم الاجتماعي والانكسارات العراقية، هكذا يمكننا بدء الحديث عنه.. عملاق آخر قرر ألا يبقى بيننا، واختار السماوات مسكننًا دائمًا له، كان عليه أن يناقشنا في أمر كهذا قبل أن يتخذه، لعله اختار موتًا هادئًا بعيدًا عن الجميع. سيرة فنان ولد في البصرة، العراق 1938، حاصل دبلوم معهد الفنون الجميلة في الرسم، بغداد 1956 – 1959، وماجستير في الرسم والجرافيك من أكاديمية الفنون الجميلة، وارشو، بولندا 1966، قضى سنوات من حياته في عمان، الأردن، وتوفي فيها هذا الأسبوع. قدم عددًا كبيرًا من المعارض الفردية والجماعية، ما بين بغدادوعمان والكويت والقاهرة وباريس ولندن وأنقرة وتونس، أولها كان 1955 معرض الجرافيك بقاعة أيا في بغداد، كما حصد عددًا من الجوائز والمكافئات، منها: 1982 جائزة تقديرية بالمرتبة الثانية معرض العالمي للملصقات، 1986 الجائزة الثانية للبينالي العالمي للفنون أنقرة، 1988 الجائزة الأولى لمهرجان الفنون الثاني بغداد، 1993 جائزة تقديرية لبينالي العالمي للفن الأسيوي بنغلاديش، 1998 الجائزة الوطنية للإبداع بغداد، وله ثلاثة جداريات رسم كبيرة : مطار بغداد، مطار البصرة، ساحة الاحتفالات بغداد. قدم عدد كبير من النقاد والمتابعين قراءات مختلفة لأعمال محمد مهر الدين، التي قدم خلالها تجريبًا مختلفًا، مستعينًا بمواد شتى، فلجأ إلى الرمل وقطع المعادن وبعض الأخشاب، الصور الفوتوغرافيّة المتضرّرة أيضًا شكلت عنصرًا أساسيًا في بعض أعماله، لتظهر حالات واقعية واتجاهات عامة للحراك الاحتجاجيّ في العالم منذ ستينيات القرن الماضي.. نستعرض الآن بعضًا من الكتابات التي تناولت أعماله الفنية تحليلًا ونقدًا: محمد العامري: أتقن مهر الدين الرسم الأكاديمي بصورة فائقة، منافسًا بذلك الفنان الراحل فائق حسن، لكنه سرعان ما انتبه إلى ذلك الفضاء المغلق في رسم المشهد المرئي ليذهب مباشرة إلى أفكاره الإنسانية والعاطفية التي تحمل حسا فرديا وجمعيا، وفي نفس الوقت هذا الانزياح للفكرة جعل منه فنانا متفردا في مادته وأفكاره، لتصبح لوحته علامة من علامات الفن العراقي الحديث، فالباليته لدى مهر الدين باليته متحركة وغير تقليدية، تشبه أدوات المهنيين فقد استخدم الأخشاب ليحك جلد اللوحة وسكاكين الطبخ وكذلك الريشة واللون واللصق والمعاجين، لذلك نرى إلى عمل يقدم مخبرا بصريا في المادة وفضاء آخر من التأويل المتبدل والحيوي. لم يمكث مهر الدين في النظريات المتعارف عليها، بل ظل يستحدث نظريته الخاصة في تبدلات التكوين وحل المشكلات، وأصبح خبيرا في إعطاء العمل مهمة ذات طابع حداثوي حتى وهو يعبر عن موضوعة سياسية مثل الحرب، حيث يعتبر مهر الدين اللوحة بكاملها عملا مضنيا يتحرك من الأطراف والوسط والهامش، حيث تبدو الحركات والخطوط والألوان والكولاج والكتابات والأرقام مادة حيوية للعناصر التي يستخدمها مهر الدين في عمله الفني. نضال برقان: منحازًا للإنسان واغترابه, من خلال معاينته لتحولاته الفكرية والوجودية, ومن خلال تتبعه لمعايير استلاب كينونته وتحويله إلى هامش مجرد من قدرته الفاعلة في عالم يضج بسياسة التهميش والإلغاء والإقصاء، بدا الفنان العراقي محمد مهر الدين خلال أعماله. ورغم ثراء وتنوع الأساليب التشكيلية التي قدمها مهر الدين، ورغم اشتغاله بمهارة وقدرة عالية على خصائص السطح وتأثير المادة واللون في صياغة اللوحة، فإنه لم يبتعد عن الجوهر الإنساني وعذاباته في الراهن والمعاش خصوصا على صعيد المشهد العراقي، حيث حوت لوحاته كتلا هائلة من العتمة فوق بنى جزئية متشابهة بالتكوين والخسارة. وقد ذهب في معارضه باتجاهات تجريدية يمكن من خلالها قراءة دلالة الاغتراب وفاعليته من خلال الخطوط والخربشات بالقلم أو اللون، لخلق تكوينات وتراكيب هندسية وبمساحات تتداخل وحركة الخط وبمشهدية حداثوية متحركة وبمعالجة عفوية، لفن يتيح للمخيلة مساحة للتحليق الحر الذي يحتاجه المبدع في شدّ المتلقي للصدمة الأولى التي تفرزها اللوحة المعمولة بحرية منفلتة واعية من دون أن تفقد صلاتها وروابطها مع عين المتلقي ومخيلته على حد سواء. حمدي مخلف الحديثي: قد لا نبالغ إذا قلنا إن الفنان محمد مهر الدين هو زلزال الفكر التشكيلي العراقي المعاصر، إلى جانب الفنانين المبدعين: عامر العبيدي وعلاء بشير وضياء العزاوي وإسماعيل الترك، فهو المتجدد دومًا الذي قال في مناسبة سابقة: وجب على الفنان إدراك موقفه بوعي إزاء الظروف، المعاصرة لتتخذ أعماله صفة المعاصرة، وكلما كانت هذه الأعمال جيدة التكنيك عميقة الإدراك للمرحلة الراهنة اكتسبت صفة المعاصرة والمستقبلية. يضعنا هذا القول إزاء إطار الوعي الفكري الملتزم الباحث عن المستقبل بروح جديدة أكثر إدراكًا مما نحسه، إدراكًا قد يكتشفه الجيل القادم الباحث عن أعمال التشكيليين لهذا العقد وما سبقه من عقود. غسان مفاضلة: تعمل التكوينات الهندسية وتوزيعاتها في لوحة مهر الدين، على تنظيم حركة الخطوط التلقائية، ضمن مساراتها الهندسية، فيما تعمل الحركة التلقائية للخطوط على خلخلة الرتابة الهندسية على سطح اللوحة ذاتها. فالحركة التلقائية في لوحته لا تتطابق بالضرورة مع إيقاعها الهندسي، بقدر ما تعمل على إعادة تفكيكه، ومن ثم توزيعه على السطح، باتجاه تحريره من المحددات الهندسية التي تحكمه في الإنشاء والتكوين. نتعرف عبر البناء المعماري غير التقليدي، الذي يسم أعمال مهر الدين، على جانب رئيسي من جوانب حوار الرؤية على سطح اللوحة حين تستهدف تفكيك لغة الواقع والحلم، وتعيد إنتاجها وفق منظور جمالي معاصر في توجهاته ومنطلقاتها التعبيرية. عاصم فرمان: يتصدى الفنان لإحدى المشكلات الفكرية الأزلية بشكل مبكر، وهي قضية الحرية، ومن خلال غيابها، التقط فكرة التمييز العنصري والقمع الإنساني بتشييده جماليًا لموضوع السجينة "إنجيلا ديفيز"، المعتقلة في أحد السجون الأمريكية، ارتقى الفنان بالحدث ليضيف بعدًا إنسانيًا شاملًا تجاوز به حدود الزمان و المكان، وهذا ما عمق فكرة الحرية المطلقة التي تم تعزيزها من خلال تعدد الشفرات و الدلالات الرمزية التي بثتها هذهِ الرسالة الجمالية في عام 1972، وتلتها ضحايا الطغاة 1973 ومصرع إنسان وتل الزعتر 1976. أن ميزة هذه الأعمال الفنية شكلت تحولاً مهماً في الرؤية الفنية والمعالجة التقنية تجاوز بها بعض الأطر الثابتة في الفن العراقي المعاصر، و ابتعد الفنان في تجسيده لهذا الموضوع عن كل التقاليد الواقعية التي طرحت نفسها كخطاب "مؤد لج"، واضح المعالم وهذا ما نشاهدهُ في الأعمال الفنية التي تنتمي للواقعية والواقعية التعبيرية أو الاشتراكية. وفي عام 1978 يطل علينا الفنان بمعرض مهم بعنوان(غريب هذا العالم)، الذي ينطلق بتجربة جديدة تعبر عن إدانته واحتجاجه لتعسف الواقع من خلال وسائله الحياتية الجديدة بالتعامل مع التطورات العلمية والتكنولوجية حين تكون على ضفاف الشر واغتيال روح الإنسان المعاصر وما تشيده من دمار وفقر وبشاعة وقلق وتدمير وغربه وانفصام.