صدر حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية، كتاب «الخسيس والنفيس: الرقابة والفساد في المدينة الإسلامية» للسفير اللبناني في مصر خالد ذيادة، يضم الكتاب مجموعة من الدراسات التي يحاول الكاتب من خلالها تقديم قراءة جديدة للمدينة الإسلامية، ليس كمجال عمراني وتخطيطي وجغرافي، وإنما كفضاء فقهي وميدان تتجلى فيه علاقة الشريعة بالسلطة والمجتمع. وقد أشار المؤلف إلى أن دراسة المدينة شغلت حيزًا بارزًا في أعمال الباحثين في الدراسات الإسلامية، كما احتلت المدينة مكانة مرموقة في أعمال المستشرقين الذين اعتنوا بالحضارة الإسلامية، خصوصًا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، لكن هذا الاهتمام تراجع في الآونة الأخيرة، إزاء الاهتمام بدارسة العقيدة وأصول الإسلام، والإسلام المعاصر وحركاته نظرًا للتطورات والوقائع التي يشهدها العالم الإسلامي منذ بضعة عقود وحتى يومنا الراهن. وأوضح المؤلف خالد ذيادة أن كتابه لا يهدف إلى خوض سجال مع أي اتجاه، وإنما يهدف إلى إبراز النصوص التي وضعها الفقهاء من أجل انتظام حياة المدينة والرقابة على مرافقها، مبينًا أن ما يمكن تسميته «الازدواج بين المدينة والدولة» يكتسب أهمية متجددة في ظل ما يُطرح حول الدولة الإسلامية، الأمر الذي يستدعي إعادة الاعتبار لدارسة المدينة ونظامها؛ لفهم الفضاء الإنساني والاجتماعي في التجربة التاريخية، ومدى استمرارها أو انقطاعها في الحاضر. ويقسم المؤلف كتابه إلى ثلاثة أقسام، تتباين مباحث كل قسم من حيث العدد والمساحة؛ إذ يضم القسم الأول أربعة مباحث وهي: الرقابة والمدينة، ونطاق الرقابة، والخسيس والنفيس، والمهن على مشارف الحداثة. بينما يضم القسم الثاني مبحثًا واحدًا فقط، أما القسم الثالث فيضم مبحثين، هما: الدولة والمدينة، والفساد والدولة. ويتناول المؤلف في مبحث الرقابة والمدينة آراء العلماء والفقهاء حول المدينة، والشروط المفتروض تواجدها فيها كالجامع والسوق والنهر والحمام، وغيرها. وقد تنازع الرقابة على المدينة صاحب الشرطة والمحتسب كما يقول المؤلف ( إن تداخلًا محتملًا وقع بين الشرطة من جهة، وبين وظائف غيرهم من أصحاب الولايات من جهة أخرى، وبشكل خاص مع الأمراء والحكام والقضاة، فكانوا ينفذون أوامرهم، إلا أنهم يقاسمونهم الصلاحيات أحيانًا). وفي مبحث "نطاق الرقابة" يتناول قضية الحسبة وأهميتها في الإسلام؛ لينتقل بعد ذلك إلى مبحث "الخسيس والنفيس" – وهو المبحث الذي منح الكتاب اسمه – مشيرًا إلى أن الحديث عن فئات "خسيسة" وأخرى "نفسية" يبدو أكثر مطابقة لواقع الأمر؛ حيث إن "النفيس والخسيس يعكسان ذلك التمييز الذي يفصل بين الفئات العليا والفئات الدنيا داخل المدينة الإسلامية، كما يعكسان المفهوم الاجتماعي للاختلافات والتفاوت بين السكان تبعًا لمقدمات مختلفة. ويمكن في المدينة الإسلامية الكلاسيكية تمييز " مجموعات من الأفراد تشكل بدورها عدة فئات، نظر إليها نظرة احتقار، واعتبر أفرادها على جانب الخسة والوضاعة والرذالة، وهم: أصحاب المهن الوضيعة – المكتسبون والمتسولون- أهل البلايا والعاهات"، ويشرح في استفاضة كل فئة من هذه الفئات الخسيسة، أما الفئات النفسية، التي تحتل موقعًا مميزًا في المدينة الإسلامية، فهي ثلاث فئات أيضًا: رجال السلطة، رجال الدين، التجار. وتتوالى مباحث الكتاب المهمة؛ ليصل المؤلف إلى الخاتمة التي يتحدث فيها عن المدينة التي صمدت "كتعبير عن الاجتماع الإسلامي حتى مشارف العصر الحديث، والوحدة التي مثلتها أخذت في التصدع حين واجهت تحديات الحداثة"، ثم يطرح تساؤلًا أخيرًا: " ما هو النظام الإسلامي في أدبيات الإسلام المعاصر؟ وما هو الاقتصاد الإسلامي والنظام السياسي؟"، ويضيف: "إن الدولة الإسلامية المقترحة تقوم على النفي، نفي كل ما قدمته الحداثة من أفكار وتراكم في الخبرات والعادات، إن النظام الإسلامي الذي تقترحه الحركات الإسلامية هو نظام يقوم على مبدأ الحسبة، وبالرغم من أن المحتسب لم يكن يملك أي صلاحيات في إقامة الحدود، فإن جل ما كان يملكه هو التنبيه والتقريع والتعزيز، فإن الحسبة حسب الإسلامين تصبح النظام الوحيد الذي تملكه الدولة، وهو نظام النفي للاختلاف والرقابة على التعبير وإعادة المرأة إلى قعر الدار".