عندما كنت طفلاً ؛ كان والدى ووالدتى يقدمون لى الهدايا فى يوم الاحتفال برأس السنة الميلادية ؛ ويقولان أن بابا نويل هو الذى أحضرها أثناء النوم . كنت أرى بابا نويل فقط ؛ فى التلفزيون وفى المحلات التجارية وحفلات المدارس والنوادى ؛ ببدلته الحمراء وذقنه وحواجبه البيضاء وملامحه الطيبة وعربته الجليدية التى تجرها الغزلان البرية . لكننى كنت أتمنى دائماً أن أرى بابا نويل أثناء وضعه الهدايا لى بالمنزل فى آخر الليل ؛ لأقدم له الشكر وأعبِّر له عن مدى حبى ؛ فقد كان دوماً يترك لى الهدايا التى أريدها . لذلك كنت – كل عام – أسأل أبى وأمى: كيف يعلم بابا نويل بالهدايا التى أريدها ؟ فيقولا لى : لأن بابا نويل يعرف كل شئ . وكنت أسالهما : هل يوجد بابا نويل للكبار ؟ فكانا يجيبان بأن الكبار ليسوا فى حاجة إلى بابا نويل ؛ لأنهم بعلمهم وعملهم يمكنهم الحصول على ما يريدون . ولكن مع مغادرتى لمرحلة الطفولة ؛ بدأت الحيرة تنتابنى كلما تذكرت كلام أبى وأمى , فانا أرى أمامى الفقراء والمرضى والتعساء والضائعين والبؤساء والمحتاجين والمسحوقين بمطالب الحياة . فلماذا لم يحقق كل هؤلاء ما يريدون الحصول عليه بالعلم والعمل ؟!! ظل السؤال يداهمنى مع طيف بابا نويل الذى كنت أتذكره مع مطلع كل عام ؛ ثم بدأت قراءاتى تقدم لى الإجابة السهلة التى تفسر كلام أبى وأمى ؛ وهى : أن الكبار بالفعل يحصلون على ما يريدون بعلمهم وعملهم ؛ وبالتالى فمن يفشل فى تحصيل العلم ويُقصِّر فى بذل العمل ؛ فإنه لن يحصل بالضرورة على ما يريد . ومرت الأعوام ؛ ولكن لم تساهم مشاهداتى لواقع الحياة وتجاربى داخل أيامها السوداء والبيضاء ؛ إلا فى زيادة حيرتى . فمع مرور الأعوام كنت أجد أن واقع بعض الناس قد فاق بمراحل كثيرة جداً أشد أحلامهم جموحاً ؛ رغم أنهم لم يكونوا يوماً ما من أهل العلم أو العمل . بينما أحلام البعض الآخر قد تكسرت وتحطمت بلا رحمة تحت ضربات وصفعات ولكمات وركلات واقع أيامهم ؛ رغم كونهم من أهل العلم والعمل والعزيمة . كانت الحيرة تأكلنى ؛ وأنا اسمع أم كلثوم تغنى قصيدة أحمد شوقى : ( وما نيل المطالب بالتمنى .. ولكن تؤخذ الدنيا غلابا ) . ثم أسمعها تغنى قصيدة إبراهيم ناجى : ( ياحبيبى كل شئ بقضاء .. ما بأيدينا خُلقنا تعساء ) . ثم بدأت الحيرة تأكلنى أكثر ؛ عندما بدأت أتطلع إلى ما هو أبعد من الأفراد لأقيس كل ماسبق على أحلام الشعوب وواقعها . وأخذت أسال ؛ هل ينطبق ذلك أيضاً على أحلام الشعوب , بحيث أن الشعوب التى تملك العلم والعمل تحقق أحلامها , بينما الشعوب التى لا تمتلك هذا أو ذاك ترسف فى أغلالها . وكان الأمر يلتبس علىّ عندما أقرا كلمات ( أبى القاسم الشابي ) التى تقول : ( إذا الشعب يوماً أراد الحياة .. فلابد أن يستجيب القدر ) . ثم أقرأ كلمات ( أمل دنقل ) التى تقول : ( لا تحلموا بعالم سعيد .. فخلف كل قيصر يموت ؛ قيصر جديد ) . وبالفعل ؛ فقد استجاب القدر لعدد من الشعوب فانجلى ليلها وتكسرت قيودها ؛ ووضعت قدمها على طريق التقدم . ولكن فى المقابل ؛ تحطمت أحلام شعوب أخرى ؛ وما انتهى فيها حكم القيصر إلا ليتسلمه قيصر جديد ؛ ربما بهيئة أخرى ؛ ولكنها تكفى لكى لا يتحقق الوطن السعيد . لهذا ؛ كنت أسأل نفسى كلما تبصرت فى تاريخ مصر المعاصر : هل امتلك ثوار يوليو عام 1952م العلم والعمل ؛ أكثر من مصطفى كامل وسعد زغلول ومصطفى النحاس ؛ ومعهم مئات الآلاف من المصريين الذين خرجوا فى المظاهرات الواحدة تلو الأخرى منذ ثورة 1919م وحتى 1952م ؛ للمطالبة بالاستقلال . ربما لم يمتلك ثوار يوليو – من وجهة نظري – أى علم ؛ فواقع حكمهم أثبت وأكد ذلك . وربما لم يبذلوا إلا أقل العمل ؛ الذى أتى ثماره فى مجرد ليلة واحدة ( بل مجرد عدة ساعات من تلك الليلة ) , وبالتالى ما انتهى حكم الملك على أيديهم ؛ إلا ليبدأ حكم العسكر بأيديهم . ومازلت أسأل نفسى كلما تبصرت فى أحوال ثورة 25 يناير ؛ وأنا أرى بأم عينى أن الثورة تتمخض عن نتائج تتصادم تماماً مع أهدافها ؛ وتنتقل السلطة فيها إلى الذين لم يفكروا يوماً فى القيام بها ؛ بينما ينال ثقة الجماهير فى صناديق الانتخاب من لا يعترفون بالديمقراطية ولا مؤسساتها . فأين ذهب علم الذين قاموا بالثورة ؛ وأين ذهب عملهم .. أين .. أين .... ؟؟؟ وأين ذهبت تضحيات الآلاف والآلاف من المصريين قديماً وحديثا وحالياً , الذين امتلكوا العلم والعمل ؟؟ أين المنطق فى كل هذا ؟؟؟؟ لماذا لم تكن النتائج على قدر العلم والعمل ؟ وظلت حيرتى تلازمنى , كلما تبصرت فى تجارب الناس والشعوب , إلى أن تعلق قلبى أخيراً بقوله تعالى : ( .. وإنما تُوَفَّون أجوركم يوم القيامة .. )[ آل عمران -185 ] . زلزلتنى الآية التى وجدت فيها الجواب على حيرتى العقلية , لأنها تؤكد بأن النتائج حتمية ؛ ولكنها ليست بالضرورة فورية . فالذين حصلوا على النتائج بدون علم وعمل ؛ ولم يدفعوا ثمن ذلك فى الدنيا ؛ حتماً سيدفعونه فى الآخرة . مصداقاً لقوله تعالى : لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم [ سورة آل عمران / 188] . أما الذين غابت عنهم النتائج فى الدنيا رغم قيامهم بدفع الثمن بالعلم والعمل ؛ فحتماً سيحصلون عليها فى الآخرة . النتائج حتمية ؛ ولكنها ليست بالضرورة فورية . لذلك قد تتصدع خططنا العظيمة ؛ نتيجة محدودية علمنا بأن النتائج قد لا تتحقق بالضرورة خلال أعمارنا , ولذلك يؤدى استعجالنا الحصول على النتائج خلال أعمارنا إلى خطيئة التضحية بمبادئنا وقيمنا , فنحيد عن طريق تحقيق أحلامنا العظيمة ؛ وبالتالى لا نجنى نتائجها وثمارها سواء فى الدنيا أو الآخرة . لهذا ؛ ينبغى علينا – دائماً وأبداً – أن نفعل الصواب ؛ وحتماً سنحصل على الثواب ؛ ولكن ليس بالضرورة الآن ؛ بل ربما غداً أو بعد بعد بعد غد ؛ أو سنحصل عليه فى الآخرة . قد تكون النتائج الدنيوية مؤجلة للأجيال القادمة ؛ ولكن حتماً سيكون لكل علم وعمل نتيجته فى الآخرة . مصداقاً لقوله تعالى : ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه )[ الانشقاق - 6 ] . فمن يكدح على طريق الله ويخاصم التخاذل ؛ حتماً سيلاقى الجزاء والأجر . ولكن متى ؟ فإن هذا يدخل فى علم الله . فالإنسان مُخيَّر فى بذل الجهد ؛ ولكنه مُسيَّر فى الحصول على جزاء هذا الجهد . لأن الإنسان ؛ مُخيَّر فيما يعلم ؛ ومُسيَّر فيما لا يعلم . وبالتالى ؛ علينا كشعوب وأفراد أن نسير على طريق الصواب بالعلم والعمل , ونفعل الصواب وننشغل به ولا ننشغل بالنتائج , لأن النتائج قادمة حتماً ولكنها ليست بأيدينا . بينما فعل الصواب هو الذى يحتاج إلى عنايتنا وانشغالنا ؛ لأنه لا يخرج إلى الوجود إلا بأيدينا . النتائج حتمية ؛ ولكنها ليست بالضرورة فورية . أقول هذا لثوار 25 يناير ؛ الذين سيحتفلون خلال أقل من شهر بالعام الأول للثورة التى لم تحقق حتى الآن أى من أهدافها ؛ بل ويتم تشويه كل رموزها ؛ ويفلت من العقاب كل أعداءها !!!!! وأقول هذا لجماهير الشعب المصرى الذين استعجل معظمهم نتائج الثورة ؛ فكانت النتيجة أن أداروا ظهورهم لأهدافها ؛ وصدقوا افتراءات المعادين لها ؛ وفرطوا فى دماء شهداءها !!!! ———- .. كانت الهدايا التى يقدمها بابا نويل فى أيام الطفولة ؛ لا تحتاج إلى دفع أى ثمن للحصول عليها . ولكن ؛ كل الهدايا التى نحلم بها ونحن كبار ؛ لن يمكننا – غالباً – الحصول عليها كأفراد أو شعوب ؛ إلا بعد دفع الثمن . ورغم أن هذا الثمن قد يكون باهظاً ؛ إلا أن ذلك لا ينفى إنه ؛ ربما تكون النتائج أقصد الهدايا ؛ مؤجلة ........ ———- بسم الله الرحمن الرحيم ( وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون * يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ) صدق الله العظيم . [ الروم - 6 / 7 ] . ******* دكتور / محمد محفوظ [email protected] ت : 01227508604