مرتبات ضعيفة.. غياب التأمين الصحي.. تهديد بالأمراض عامل: ليه نقف تشريفة طول النهار عند مرور المحافظ أو رئيس الحي.. هو احنا عبيد نتمنى أن نشعربالاحترام من المواطنين ابني عاد للمنزل باكيًا لأن زملاءه يسبونه ب"أبوك زبال" ببدل خضراء ومكانس خشبية في أيديهم يجوبون بها شوارع القاهرة ذهابًا وإيابًا، لا يحصلون سوى على نظرات قليلة من الشفقة والعطف لكنها تظل من بعيد، فها هي سيدة تتأفف من الأتربة الناتجة عن تنظيف الشوراع، ورجل يلقي من شرفة سيارته العلب الكرتونية الفارغة للعصائر والسجائر، ليأتي بعده صاحب عامل انظافة محنيًّا ليزيلها وينظف الشارع. عاملو النظافة أو بالعامية كما يصفهم الكثيرون "الزبال"، ولا يعلمون أن الزبال هو من يلقي بالقمامة في الشارع، وهذا الرجل العجوز الذي يجملها ويعيد للشوارع والمادين بريقها ونظافتها، صاحب فضل كبير على كل مواطن لا يحترم آدمية عامل النظافة، على كل مواطن لا يحترم وطنه ويهينه بسلوكيات غير لائقة من تلويث مظهره الحضاري.. ولا يمكن تصور أن أبًّا يسير بجوار ابنه ويلقي بالقمامة في الشارع، أو ينهر أمامه عامل جمع القمامة، ويتعالى عليه، فهو لا يدرك أن كل تصرفاته سوف يقتبسها الابن بعد ذلك، وتضيع معها كل القواعد السلوكية التي يتعلمها في المدرسة من أول شعار يجده على جدرانها "حافظوا على بلدكم نظيفة وجميلة".. إيمانًا من "البديل" بدورها في نقل أوجاع المستضعفين وهمومهم في هذا البلد، تتجول مع عمال القمامة في يومهم وتتعرف على مشكلاتهم ومطالبهم. قال ماهر عبد الملاك، 48 عاما: أعمل منذ 10 سنوات في جمع الزبالة من الشوارع، وعملي يتبع الشركات الأجنبية الخاصة وهي "اما العرب"، ومرتبي وصل إلى 700 جنيه، أعيل بهم أربعة أولاد، تمكنت من تجهيز ابنتي الكبرى، وهي فى بيتها الآن، وأحمد في كلية تجارة، وعلي في الابتدائية. وأضاف: أكل العيش مر، ولم أجد عملًا حاليًا أفضل غير جمع الزبالة، رغم الإهانة والاحتقار الذي نراه في أعين الناس من حولنا، يتقززون منا ومن ملابسنا المتسخة، لو عايز رغيف فول من عند المطعم ووقفت جنب الزبائن، ينفرون مني، يمكن عشان ريحة هدومي زبالة، لكن أعمل إيه هي دي وظيفتي، والزبالة لازم تكون ريحتها وحشة، يعنى هتكون مرشوشة ريحة؟! ويقول الحاج ماهر: كل اللي بطلبه الرحمة من المسؤولين، احنا بني آدمين، يعني إيه يطلبوا مننا في الشغل نقف تشريفة طول النهار في شارع شبرا بطوله، عندما يمر رئيس الحي أو محافظ القاهرة أو أي مسؤول، أقف ليه على رجلي طالما خلصت شغلي ونضفت الشارع كله، هو احنا عبيد؟ وأضاف أن أي زيادة مالية إضافية تحصل عليها الشركة الأجنبية من المحافظة القاهرة أو الهيئة العامة لنظافة وتجميل القاهرة لا تصل إلى العمال الغلابة نهائيًّا، لكن الشركة تطبق الجزاءات والغرامة سريعًا على العمال، مطالبًا بتأمين اجتماعي عادل ومعاش يصون حياتهم بعد المرض وكبر السن، فإجمالي نهاية الخدمة لن يتجاوز 5 آلاف جنيه، ومعاش 450 جنيهًا. يقاطعه عبد الباسط محمد علي، 53 عامًا: نحب نقول للناس اللى بتقرف مننا إننا بنضف قذارتهم وإهمالهم من إلقاء القمامة بالشوراع، خارج الصناديق الكبيرة المخصصة لجمعها، فنحن كعمال لجمع القمامة نتعرض يوميًّا للموت المجاني، من سرنجة ملوثة بالدماء تنقل لنا فيروس الكبد والفشل الكلوي، فنحن معرضون للموت من مواد حارقة يتم إلقاؤها في القمامة، وأمراض صدرية من الروائح الكريهة. وأضاف: أنا فخور بمهنتي طالما من عرق جبيني، فهي مهنة شريفة رغم تعبها، لكن نطالب بالحد الأدنى من أداء المهنة بلا أضرار جانبية، نحتاج إلى قفازات بدلًا من الجروح التي تصيبنا يوميًّا من جمع الزجاج المكسر أو السرنجات الطبية، بالإضافة إلى مكانس حديثة بدلًا من تلك الخشبية القديمة التي لا تنظف جيدًا، وصناديق جيدة بدلًا من تلك المتهالكة. وعن أصعب المواقف التي يواجهها بالشارع، صمت قليلًا وتملّكه الحزن، قائلًا: أعمل بهذه المهنة منذ 16 سنة، وفي إحدى المرات تعرضت للصفع على وجهي لمجرد إني "زبال" مقرف، حيث كنت أكنس أحد الشوارع الجانبية بحي الساحل، وطلبت من إحدى السيدات البتعاد قليلًا لجمع القمامة التي توجد خلفها على الرصيف، لكنها نهرتني قائلة: يعني هو الشغل مقطع بعضه، كفاية تراب وقرف" وعندما قلت لها إني أؤدي عملي، وجدت زوجها يأتى من الخلف ويركلني ويضربني ويصفعني على وجهي، قائلًا: هو ناقص كمان الزبالين يتكلموا.. يلا ربنا يسامحه.. بينما يقول سعيد أبو اليزيد 54 عامًا: أعمل بالهيئة العامة لنظافة وتجميل القاهرة منذ 15 عامًا، أول مشكلاتي أني أسافر يوميًّا من قويسنا بالمنوفية إلى القاهرة للعمل بحي شبرا، حيث استيقظ من الثالثة فجرًا حتى أصل إلى القاهرة في السادسة والنصف لأستلم معداتي وأبدأ العمل من السابعة صباحًا حتى 3 عصرًا. وأضاف أنه يستهلك يوميًّا 15 جنيهًا مواصلات للسفر من المنوفية إلى القاهرة، من جيبه الخاص، فلا توجد أي بدلات للانتقال، فمرتبه فقط 800 جنيه، رغم مطالبته كثيرًا مع زملائه النقل إلى المنوفية بدلًا الساعات الطويلة التي يقضيها في السفر. وعن أولاده، ومدى تقبلهم مهنته، قال: لديَّ 6 أولاد، وجميعهم في المراحل التعليمية المختلفة، مشيرًا: "أنا ببذل كل جهدي عشان خاطرهم، مش عايز حد يهينهم ولا يؤذيهم زي ما بتعرض في شغلي، مش عايز حد يذلهم زي ما أنا بحس بكده من نظرات الناس وقرفهم من إني زبال. وتابع: "ابني أحمد وهو في الابتدائية عاد من المدرسة وهو يبكي، واشتكى لي قائلًا: هو انت ليه "زبال"، العيال في المدرسة بشتموني ويقولولي: "أبوك زبال"، قلت لها وقتها: "طالما شغلانة شريفة وأبوك مش بيسرق ولا يباخد حق حد، لازم تبقى فخور بعمل أبوك"، ومن وقتها وكل أولادي فخورين بعملي، ويشفقوا على من التعب والإرهاق، ويسعوا دائمًا للمذاكرة والنجاح للالتحاق بكليات ويتوظفوا ويصرفوا على ويعوضوا تعبي. وقال حمدي أحمد، 40 عامًا من الوادي الجديد: نتحمل الغربة وفراق الأهل عشان لقمة العيش، أنا حاصل على معهد خدمة اجتماعية ولم أجد فرصة عمل سواء خاصة أو حكومة، وكان لزامًا عليَّ البحث عن فرصة عمل للإنفاق على عائلتي الفقيرة بالوادي الجديد وإخواتي البنات الذين يريدون الزواج". وأضاف: لم يكن أمامي فرصة سوى جمع الزبالة من المنازل بمنطقة شبرا الخيمة، رغم أن سكانها يدفعون قيمة جمع القمامة على فاتورة الكهرباء إلَّا أنه لا يوجد أي عمال من الشركات الخاصة تصعد لهذه البيوت، واستمر العمل إلى أن تزوجت وكان يجب أن يزيد دخلي ف300 جنيه شهريًّا من جمع القمامة من عدة منازل لا تنفق على أسرة أخرى، فقررت العمل بمسح السلالم للبيوت أسبوعيًّا لعدة منازل حتى يصل دخلى الشهري إلى 800 جنيه. وتابع: "الشغل مش عيب" أحسن من الاحتياج للآخرين، رغم أنه حاصل على درجة عالية من التعليم الجامعي فهو يفضل العمل عن الجلوس في المنزل والانضمام لطابور العاطلين، أو اللجوء للإدمان أو البلطجة. بينما يحكي الحاج بركات توفيق، مركز العياط بالجيزة، أنه يعمل منذ 25 عامًا بالهيئة العامة لنظافة وتجميل القاهرة، بعد أن ترك عمله ك"مبيض محارة" لعدم استقرار هذه المهنة، فهي متقطعة وتعتمد على الرزق اليومي، مشيرًا إلى أن عمله يستمر لمدة 8 ساعات يوميًّا وهو مسؤول عن بداية شارع المبتديان حتى قصر العيني. وأوضح أنه يسافر يوميًّا من العياط إلى القاهرة، ويحصل على مرتب 1000 جنيه، وكل ما يسعى إلى تحقيقه في الحياة هو أن أنجز في تزويج بناتي الثلاث، وأن يستكمل ابنه الوحيد التعليم والالتحاق بكلية الطب، حتى لو اضطر مد عمله بعد سن المعاش، الذي لم يتبق عليه سوى سنتين؛ من أجل أن يحقق الابن حلمه، مشيرًا إلى أن أهم ما يزعجه في الشارع هو تلك السيارات التي تقف وتلقي من الشباك بالقمامة في وسط الشارع، أو الاشخاص الذين يلقون بعلب السجائر أو العصائر، على الرغم من أنهم يستطيعون إلقاءها في الصناديق الخاصة بذلك. وعبَّر الحاج بركات عن رضاه بالعمل كزبال، وعدم اشمئزازه من إزالة أي مخلفات بالأرض، فهو يرى أن الإنسان بلا عمل أيًّا كان نوعه طالما كان شريفًا وحلالًا، يصبح ميتًا وعالة على الآخرين فهو يتمنى أن يتم الاهتمام بالتأمين الصحي لعمال النظافة، فالتأمين الصحي يحتاج إلى اهتمام المسؤولين، ففي كل مرة ذهب فيها للكشف على الضغط أو السكر يتم صرف أقراص "ريفو"، أما التحاليل والإشاعات يتحمل نفقتها على حسابه الخاص. وعن أحلامه أردف بابتسامة هادئة: "كل ما أتمناه لمصر هو الاستقرار والأمان، وأن يتوقف قتل جنودنا في العريش، فهم غلابة وفقراء، وبيصرفوا على أهلهم، وحلم أمهاتهم وآبائهم، لكن لا يعني ذلك أن نتخاذل في الدفاع عن ذرة من تراب بلدنا، فكل مواطن في مصر يجب أن يعتبر نفسه جنديًّا على الجبهة في عمله، سواء في الشارع أو في المكتب".