داعش تتمدد إلى ليبيا، والدولة المصرية على رأس قائمة أعداءها. هذا ببساطة فحوى رسالة مقتل 21 مصرياً على أيدي مسلحي التنظيم الإرهابي المنتمين إلى ما يمسى ب"الدولة الإسلامية-ولاية طرابلس". كرد فعل مباشر على الجريمة البشعة، ضجت وسائل الإعلام بتنويعاتها والشبكات الاجتماعية بضرورة "التدخل العسكري" في ليبيا، وفي الخلفية الذهنية مشهد الطائرات الأردنية وهي تُغيّر على مواقع تنظيم "الدولة الإسلامية" في محافظة الرقة السورية، عقب إعلان التنظيم عن قتل الطيار الأردني، معاذ الكساسبة حرقاً. تستدعي الجريمة رداً مصرياً لا يقتصر بطبيعة الحال على الاستنكار والاستنفار الإعلامي وإعلان الحداد أو حتى ضربة انتقامية استثنائية، فالتنظيم الإرهابي يكيل الضربة تلو الأخرى منذ شهور بشكل متتالي، على مسرح عمليات يمتد من سيناء شرقاً وحتى ليبيا غرباً، مما يعني أن القاهرة بشكل مختصر تواجه عدوان بالمفهوم العسكري، وليس "إرهاباً" يهدف إلى "زعزعة الأمن" بالعبارة التقليدية، فالتنظيم الإرهابي يعتبر مصر منفذ ومنقذ هام في إطار مجابهة التحالف الدولي ضده، وساحة جديدة لعملياته ووجوده توفر فرصة هروب إلى الأمام بعد اندحار غير هَيّن في العراقوسوريا. بالإضافة إلى كون مسرح عملياته الجديد يُمهد لربط كافة التنظيمات التكفيرية في إطار جغرافي محدد في ليبيا التي تتوافر فيها مقومات اللادولة لتتهيأ كركيزة انطلاق وتحكم وسيطرة لشمال أفريقيا وإقليم الصحراء الكبرى الممتد من الصحاري المصرية وحتى سواحل الأطلنطي، أي من مصر ومروراً بليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا وتشاد وصولاً إلى مالي ونيجيريا، مماثلة لما كانت عليه الرقة ونينوى وفي سورياوالعراق. وهنا بديهي أن نرى أن مصر أصبحت بين جبهتين قرر التنظيم الأم وخليفته فتحهما للأسباب السابقة. رد الفعل المصري تمثل في إعلان الرئيس عبد الفتاح السيسي في خطاب متلفز أمس أن أول قراراته عقب الحادث وبث التنظيم الإرهابي لفيديو عملية إعدام المواطنين المصريين هو طلب انعقاد مجلس الدفاع الوطني، أعلى هيئة أمنية وعسكرية في مصر، وتكليفه لوزير الخارجية بالذهاب إلى نيويورك ممثلاً لمصر في القمة الدولية التي ستناقش ملف الإرهاب الدولي. وفي الساعات الأولى من صباح اليوم أعلنت القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية عن ضربة جوية مركزة استهدفت معسكرات وأماكن تمركز وتدريب ومخازن أسلحة وذخائر للتنظيم الإرهابي في الأراضي الليبية. تبعه نشر فيديو للمقاتلات المصرية التي من المفترض أنها نفذت الضربة الجوية أثناء إقلاعها من أحد المطارات العسكرية. التدخل العسكري المصري لماذا وكيف؟ رد الفعل الأوليِّ قد يكون كافياً خاصة على الصعيد الداخلي، حيث تخفيف الشعور العام بالغضب وانتظار رد مناسب على الجريمة الشنعاء، ولكن الحادث الإرهابي ورد الفعل عليه يطرح العديد من نقاط التساؤل ترتبط بالخطر الذي يمثله تنظيم "الدولة الإسلامية" على مصر وأمنها القومي ومجالها الإستراتيجي، خاصة وأن الأمر لا يتعلق بليبيا فقط، ولكن أيضاً في سيناء، وكما ذكرنا فأن التنظيم ينظر إلى المنطقتين كساحة حربية واحدة، وبالتالي فأن أول المستهدفين يجب أن يكون الدولة المصرية. قبل التطرق إلى مسألة الدور العسكري المصري الممكن في ليبيا عاجلاً أو آجلاً يجب التطرق إلى الوضع في ليبيا بشكل عام. فالبلد التي تعاني من فشل على كافة المستويات وتفكك كل أشكال المؤسسات المركزية والسيادية وحالة اللادولة منذ أربعة سنوات الكلمة الأولى والفاعلة فيها لمليشيات عسكرية بعضها شبه نظامي وتتحكم في القوى السياسية الفاعلة في ليبيا وخصوصا في غربها، وشرقاً هناك قوات اللواء خليفة حفتر. والمعظم المتبقى هي مليشيات عسكرية محلية ذات خلفية "تكفيرية"-مثل غرفة عمليات ليبيا وقائدها أبو أنس الليبي المنتمي فكرياً وتنظيمياً للقاعدة- ساهم جزء منهم في المعارك ضد نظام القذافي، وصارت بعد ذلك تحت أمرة من يدفع رواتب مقاتليها. وأخيراً وهي التنظيمات العسكرية الأخطر متمثلة في مليشيات "أنصار الشريعة" وأخيراً "الدولة الإسلامية-ولاية طرابلس". كافة هذه المليشيات والتنظيمات العسكرية هي في اقتتال دامي مع بعضها البعض، ويكاد يكون هناك غياب تام لشكل جبهوي على أساس سياسي أو اجتماعي متمثل في أحزاب سياسية أو قَبلي، ولكن على أساس جغرافي ومناطقي يتميز بتوازن حساس كثيراً ما يختل لصالح هذا التنظيم أو ذاك. فعلى سبيل المثال لا الحصر تدور معارك منذ أسابيع في مدن شرق ليبيا كسرت وبني غازي ودرنة بين المليشيات "الوطنية" والأخرى "التكفيرية" وهي معارك نتج عنها استيلاء الأخيرة على مدينتي درنة وسرت وإعلان تبعيتها ل"الدولة الإسلامية". ضرورة التدخل العسكري تكمن في نقطتين أساسيتين: أولهما أن الأوضاع في ليبيا تمثل تهديداً للأمن القومي المصري، لا يقف فقط عند تهريب الأسلحة بمختلف أنواعها إلى داخل مصر-تستخدم في الهجمات الإرهابية في سيناء- ولكن لكون الأراضي الليبية أصبحت ومنذ أواخر العام الماضي امتداد لتنظيم "الدولة الإسلامية" الذي كما قلنا من قبل تمثل ضرباته الموجهة ضد مصر مكسب استراتيجي هام ينقذه من تعثره وهزائمه في العراقوسوريا. بالإضافة إلى –وباختصار شديد- أن تمركزه في سيناء وليبيا يعني شوكة في جانبي الدولة المصري. وخاصة أن نشاطه في ليبيا مرشح –في حال عدم مجابهته عسكرياً- بالامتداد إلى مصر من حدودها الغربية، حيث أن التنظيم يحتل مدينة درنة، ويتخذها كمركز لانطلاق عملياته شرقا وغرباً. ثانياً أن هناك مئات الآلاف من المصريين في ليبيا بحكم العمل والحاجة حتى في ظل الأوضاع الأمنية المتدهورة هناك. وكما يستنتج من سلوك داعش في جريمته الأخيرة أنه عمد إلى جريمته بدافع نقب عنه على أساس مشكلة طائفية قديمة، مستهدفاً مواطنين مصريين ليس لهم أي ذنب إلا كونهم مصريين، أي أن التنظيم هدف إلى رسم معادلة سمتها خطف رهائن وقتلهم لتوجيه ضربات دعائية معنوية إلى مصر. وهو ما يعني أنه على القاهرة أن تلجأ إلى حل عسكري يفوت هذه الفرصة على التنظيم الإرهابي. خاصة وأن تكرار جريمة الأمس وارد جداً مستقبلاً كلما تعثر التنظيم ووجهت إليه ضربات سواء في سوريا أو العراق أو مؤخراً في سيناء، أو قتاله على يد قوات ليبيا الوطنية بقيادة خليفة حفتر المدعوم من مصر. طبقاً للسابق، فأنه يجب حال اللجوء إلى تدخل عسكري في ليبيا من جانب مصر أن يكون هناك حليف محلي فاعل له نوع من الشرعية والقبول لدى الشعب الليبي، وأن يكون التحالف على أساس المصلحة المشتركة لا لمبدأ التابع والمتبوع كمعظم المليشيات المسلحة المؤتمرة بأمر مموليه من الدول الإقليمية على رأسها قطر وتركيا. وعلى صعيد أخر لا يمكن أن يكون هناك دور عسكري لمصر في ليبيا بشكل منفرد يتجاوز الضربات الجوية الانتقامية مثل التي حدثت فجر اليوم. فأولاً مسألة حرب مفتوحة من جانب مصر وحتى إن اقتصرت على طلعات جوية ودعم لوجيستي لقوات حفتر مسألة مكلفة اقتصادياً وعسكرياً وجديدة على الجيش المصري المتخذ نمطاً دفاعياً منذ معاهدة السلام عام 1979. وأبلغ مثال على ذلك أن الغارات التي استهدفت مواقع لمليشيات "تكفيرية" إبان معارك مطار طرابلس قبل حوالي خمسة أشهر، كانت بتمويل وطائرات إماراتية وطيارين مصريين. وذلك يعكس أيضاً أن لا عمل عسكري منفرد لأي دولة في ليبيا، وخاصة أن الولاياتالمتحدة تحفظت على الغارات السابقة في العام الماضي، واعتبرت أن هناك "خط أحمر" لمثل هذه الخطوات الفردية من جانب حلفاءها لا ينبغي تجاوزه. وهو ما يعني وجوب توفر غطاء سياسي سواء دولي أو عربي أو حتى إقليمي في إطار دول البحر المتوسط مثل فرنسا أو إيطاليا. ولكل من السابق يجب توفر ظروف وإرادة سياسية، ناهيك عن تداعيات سياسية ليست بالضرورة أن تكون إيجابية سواء على مستوى علاقات مصر الإقليمية أو الدولية. موضوعات متعلقة: