مثل كل أعمال المخرج أحمد عبد الله، يبقي الفيلم معنا طويلًا بعد مشاهدته، مثيرًا موجة من التساؤلات. «ديكور» الذي استقر في دور العرض بعد جولة بمهرجانات لندنوالقاهرة وقرطاج وغيرها.يقدم صناعه تحية لسينما الأبيض والأسود وقضاياها ونجومها، خاصة فاتن حمامة. بطلته «مها» مهندسة ديكور، تتماهى مع شخصية بطلة فيلم تعمل على تصميم ديكوره، ومع شخصيات الأبيض والأسود، في مقدمتهم سيدة الشاشة العربية وأفلامها "نهر الحب، أيامنا الحلوة والليلة الأخيرة". لتستيقظ «مها» وتكتشف أنها فقدت الذاكرة 15 عامًا، عاشت خلالها حياة بديلة باعتبارها أختها التي رحلت في غارة أثناء الحرب العالمية الثانية، ليمثل الفيلم رحلتها في محاولة استعادة وإثبات شخصيتها الحقيقية، بمساعدة طبيب نفسي، مقابل محاولات زوجها في السيطرة عليها، وحتى التخلص منها، ويتحاور «ديكور» مع هذا الفيلم وتتداخل أحداثهما في مشاهد عديدة. رغم جاذبية سرد «ديكور»، ونعومة الانتقال بين العالمين اللذين تتوه بينهما بطلته، وسلاسة تضفير التعقيدات التي تمثلها الاختيارات المتعددة والجمع بين الواقع والأحلام والتخيلات، إلا أنه أفرط في إرباك المشاهد بين العوالم والأحداث التي تعيشها البطلة، بحثًا عن "شوشرة متعمدة"، دون أن تخلف قيمة مضافة إلى الأفكار التي يقدمها تتراوح الأحداث بين عالمين تختلف فيهما شخصيات الفيلم، خاصة البطلة، فهي مهندسة الديكور العصرية المتمردة، الدقيقة في عملها، تتشارك العمل على ديكور أحد الأفلام التجارية مع زوجها «شريف»، ولا يريدان تحمل مسؤولية إنجاب أطفال في عالم لا يشعران بالرضا عنه. في عالمها الثاني هي زوجة تقليدية لزوج عطوف ويتحمل مسؤولياته وأم لطفلة جميلة وحسب. حين تشكو البطلة لزميلها أنها تنزلق لعالم شخصية الفيلم الذي تصمم ديكوره، يرد: لماذا تقاومين، العبي للآخر. هكذا تتوالي ألعاب الدخول والخروج من العوالم المختلفة، فتارة شريف ومها ثنائي يعيشان في القاهرة يعملان على ديكور فيلم بأجر واحد، ما يسمح بانتقاد أنماط إنتاج السينما التجارية، لكنه اختار أحد رموز السينما المستقلة، إبراهيم البطوط، ليكون مخرج فيلم بطلته مهووسة بشكلها وبممارسة دور النجمة المسيطرة، لعبته يارا جبران، فيما يحاول باقي الفريق استرضائها لإتمام التصوير، مقابل منتج بخيل يضغط على فريق العمل بخصومات من الميزانية. وتارة هي مدرسة رسم، زوجة لمهندس كان جارها يعيشان في الإسكندرية، بلد البطلة، في شقة ديكورها تقليدي. وفي المدرسة التي تعمل بها تنصح زميلتها التي يضربها زوجها بالطلاق، وترفض قرار عائلتها بيع استديو الوالد الذي يمثل لها ذكريات كثيرة، وخلال اجتماع البيع تأتي إشارات إلى زواج والدها من أخرى، التي ظهرت بعد رحيله مع اقتسام الميراث. في الفيلم، يحتل المسكوت عنه مساحة واسعة، وفي أكثر من حدث، يتم التأكيد لعى أن ما ترفضه مها في حياة، سبق أن وافقت عليه في حياة أخرى، كبيع الاستديو بسبب أزمة مالية يتعرض لها زوجها خلال فترة الكساد بعد الثورة وأثناء حظر التجوال، وفي عالمها كمهندسة تعمل على ديكور فيلم لا يعجبها لأسباب إقتصادية بضغط من زوجها. وفي مشهد شديد الذكاء يأتي الحوار بين ثنائي المهندسين، فيقول لها «شريف» وافقت على الفيلم، وسألتك عدة مرات، ويختمه الزوج ساخرًا "يا نوال لما اكلمك تردي علي"، وهي ترد "خليك مع نوال"، في إشاره لعشقها ل"نهر الحب"، وشخصية نوال/ فاتن حمامة، الواقعة تحت السطوة الغاشمة لزوجها السياسي المتسلط الذي يرفض طلاقها، كأن الفيلم يقدم مقابلة بين أنواع مختلفة من الضغوط، مقابل نموذجين لزوجين عصريين محبين وعطوفين، فيما تمثل ظروف الحياة ضغوطًا تجبرنا على قبول ما نرفضه. في النصف الثاني من الفيلم، يأخذنا السيناريو في لعبة التمثيل والإرباك بين الواقع والخيال، في ذهن البطلة، فالزوج المهندس يتحول في مشهد آخر إلى حبيب وخطيب سابق، انفصلا قبل سنوات وتزوج من النجمة التي كانت تغار منها وترفضها، وهو أيضًا الزوج التقليدي، في مشهد آخر، جارها الذي أحبها ولم تقبل به وفضلت زميلها عليه، لتتكرر عدة مشاهد تعيشها البطلة تارة مع شريف وأخرى مع مصطفي. إشار الفيلم إلي حظر التجوال، وتأثيره على الأعمال، محددًا زمنه في فترة المجلس العسكري، رغم أن باقي الأحداث مجردة من مؤشرات الزمن والمكان، لتعطية انفتاحًا إنسانيًا أكبر، لكن الإشارة إلى حظر التجوال وأحوال مصر بعد الثورة، تتجانس مع حالة من الإثارة والتوتر في حياة المرأة التي لا تعرف إلى أي عالم تنتمي، فيما تتمرد على البيت التقليدي. ويهجو الفيلم حالة الاستقطاب بين مشروعين للحياة، وينتصر للحق في إعادة الاختيار بما يحمله ذلك من دلالات أوسع، تشمل ما يشهده الوطن سياسيًا واجتماعيًا، وسيادة ثقافة التخوين ورفض الآخر عليه. لكننا لا نستطيع التعاطف مع أزمة بطلته، حيث يمثل الواقع والخيال حياتين رائعتين يتمناها أي شخص –وذلك وفق تعبير ورد بالفيلم- واختيار بين زوجين كلاهما محب وعطوف، دون أسباب، سوى الإرهاق، ووجودها في ديكور فيلم زمنه قديم، وحتى مشكلة بيع استديو والدها رسام الأفيشات القديمة، لا تبدو مبررًا كافيًا، وإن بدا في تطور لاحق أن إجهاضها، وأزمة علاقتها بزوجها شريف، ومحاولتها التوافق مع رغبته في عدم الإنجاب. كشف الحدث هشاشة عالمها الذي تفتقد فيه أشياء كثيرة. على أنه في ظرف آخر، فإن زوجها سيخضع لرغبة المرأة الأخرى في الإنجاب. حورية فرغلي، نفسها، عكست المشهد الذي ترفض فيه ملابس بطلة الفيلم المفترض تصويره، استبقت حورية عرض "ديكور" بحملة دعاية تضم صورًا بفساتين عارية ووضعيات مثيرة، أبعد ما تكون عن روح بطلته التي تعاني صراعًا وجوديًا وفكريًا. ورغم محاولات المخرج توظيف حورية بآداء داخلي، ورغم تأكيده أنه اختارها لكونها لا تقدم خلفية عن تمثيل دور مشابه، ومناسبتها للتصوير بالأبيض والأسود، إلا أن نبرة صوتها الموحدة، كانت أحد عوامل عدم الاقتناع سواء بدورها أو أزمتها. في المقابل خطف ماجد الكدواني القلوب، وأشعرنا بمعاناة الزوج الذي يعيش مع زوجة يحبها، شبه مريضة نفسيًا، تختلق عالم آخر تعيش فيه مع حبيب آخر، وبدا خالد أبو النجا مقنعا في حدود دوره. التشويش المتعمد، أخرجنا من الانغماس في البحث عما هو الواقعي وماهو الخيالي، للانتقال للصراع الأكبر بين ما يريده الإنسان، ومواجهة قسوة وشجاعة الاختيار، لأن السلبية وعدم حسم الاختيارات الضرورية قد يفسد حياتنا/ وحياة المحيطين بنا، ويجعلنا نعجز عن رؤية الجمال فيما نمتلكه بالفعل في حياتنا، فالفيلم يستهدف تحفيزنا على خوض رحلة الاختيار. يلتزم الفيلم بالوان الأبيض والأسود، ونرى المشهد الوحيد الملون مع نزول تتر النهاية، محدثًا صدمة إفاقة لجمهوره كأنهم كانوا في عالم من الأحلام أو ألعاب التمثيل، تاركًا المتفرج في مواجهة نفسه واختياراته، في المقابل تترك الكاميرا نجوم الفيلم وتتابع ثنائي من الجمهور شاب وفتاة أثناء خروجهما من السينما، وفي لقطة ساخرة أخيرة، تصطدم سيارة بأخرى مركونة أمام السينما بالشارع، في مشهد يحتمل دلالات مفتوحة وساخرة في الفيلم عناية بكل التفاصيل الفنية من الديكور المختلف لكل موقع وحياة تعيشها البطلة، إلى شريط الصوت والموسيقى، أحد أكثر عناصر التفوق والصعوبة في فيلم ينتقل بين العديد من العوالم والأزمنة والحالات الشعورية، ويتضمن تداخلات صوت من مشاهد أفلام قديمة، إلى اختيار أغنية "شبابيك" بصوت محمد منير، وفي مشهد آخر بصوت هاني عادل، في توزيع جديد، كأنها مقابلة بين عالمين لشخصيتين، لتبقي الأغنية مع تتر النهاية تحمل بعدا آخر لما قدمه الفيلم مستوحى من كلماتها. «ديكور».. امتداد لنوعية الأفلام النفسية التي تناقش قضايا فكرية قدمها المؤلف محمد دياب، ومنها "أحلام حقيقية وألف مبروك"، وهو أول كتابة مشتركة مع شقيقته شيرين. وفيه يواصل أحمد عبدالله تقديم تجارب سينمائية تتخطي المعتاد، وهي المرة الأولى التي يخرج فيها فيلمًا ليس من تأليفه، وخارج سياق السينما المستقلة التي يعد أحد رموزها، وإنما عبر شركة نيوسينشري التي دعمت تجارب سينمائية هامة. الفيلم بطولة: خالد أبو النجا بطل الفيلمين الأول والثاني للمخرج "هليوبوليس، ميكروفون" وماجد الكدواني، حورية فرغلي، سمر مرسي، يارا جبران، ومنحه البطراوي، تصوير طارق حنفي، مونتاج سارة عبد الله، موسيقى خالد الكمار، وأحمد مصطفى، تحت إشراف هاني عادل وصوت كوستاس فارفيبيوتيس.