«تعال.. تعال.. لا يهم من أنت، ولا إلى أي طريق تنتهي.. تعال.. لا يهم من تكون.. عابر سبيل.. ناسكًا.. أو عاشقًا للحياة.. تعال.. فلا مكان لليأس هنا.. حتى لو أخللت بعهدك ألف مرة.. فقط تعال لنتكلم عن الله».. مع مولانا جلال الدين الرومي نتكلم عن الله في حضرة آل بيت رسول الله، نجتمع حول ضريح سيدة الدارين نفسية العلم والعلماء.. ننشد معًا «كم حاربتني شدة بجيشها/ فضاق صدري من لقاها وانزعج/ حتى إذا يأست من زوالها/ جائتنى الألطاف تسعى بالفرج»، حتى ما نكاد ننتهي من ابنتهالنا هذا ليسرع كلًا منا في دعاءه أمالًا في تحقيق رجاءه. تخفت الشمس وتبدأ في المغيب وتخف أرجل المارة من الشوارع والحارات، لتدب حبًا وشوقًا لسيدة بيت آل رسول الله؛ السيدة نفيسة بنت الحسن الأنور ابن علي ابن أبي طالب (كرم الله وجه)، طمعًا في اغتلاس حالة روحانية نادرة جدًا تبعث على الهدوء والسكينة لا يجدونها إلا في حضرتها. تختلف الوجوه ما بين يأس ورجاء، يقبلون الضريح ويذرفون الدموع، تعانق أرواحهم السماء بينما تلمس أجسادهم الأرض، فساحة المسجد الخضراء مع لون الشفق في المغيب، تليقائيًا تستدعي روحك الربانية لتطير بك في رحاب الكون، فترى الوجوه على اختلافها تأتي من شتى أرجاء المحروسة، من أول العجوز التي تتضرع للشفاء من ألم بالعين حتى أعلى كبار الوزراء والمسئؤولين. في رحاب السيدة، أنت لست في حاجة إلا أن تلمس الضريح وتغمض عيناك، وتأخذك ابتسامتك إلى يقين في الله باستجابة دعاءاك. ولك أن تتجول وتستمتع بالنظر لوجوه بسيطة خاشعة أتت بحثًا عن أمنية ترجو تحقيقها، ووجوه أخرى لا تستطيع رؤية ملامحها جيدًا إذ تتمايل الأجساد يمينًا ويسارًا محلقة في عالم أخر «أنا المداح قلبي بيرتاح/ ومدح الزين رأس مالي»، ووجوة أخرى جلست في حلقات حول رجل اعتلى الشيب رأسه يقصص عليهم أنباء آل بيت رسول الله. بوضع رجلك اليمنى بمسجد السيدة نفيسة، تتطاير لأذنك أناشيد وابنتهالات ودعوات تأسرك دون إستذان في حالة صوفية تتمنى أن يتوقف الزمن عندها، تأخذك نفسك وتتجول المسجد وأنت تستمتع بما ترى وتسمع بما في القلوب حبًا وشوقًا لسيدة الدارين. لكن لماذا كل هذا الحب والتقدير الذي يكنه المصريون لسيدة آل بيت رسول الله؟ «الجواهر النفسية في مناقب السيدة نفسة رضى الله عنها» للراحل الشيخ محمد عبدالخالق إمام، يجيبك هذا الكتاب محاولًا اشباع شوقك وحبك لهذه السيدة العظيمة، إذ تتعرف على حياتها في مصر ولماذا قدسها المصريون إلى هذا الحد. إذ لهم مذاق خاص في العشق، يصدقون كل ما يقال عن محبوبهم محلقيين بخيالهم بعيدًا، وكان للسيدة نفسية نصيب عظيم من ها العشق. كانوا كلما التقو بها في موسم الحج، يسألونها زيارتهم لكثرة ما سمعوا عن فضلها وعلمها، فكانت ترحب بدعوتهم وتقول لهم: سأزور بلادكم إن شاء الله فإن الله قد أثنى على مصر وذكرها في كتابه الكريم. وقد أوصى جدي بأهلها خيرًا فقال: إن فتحتم مصرًا فاستوصوا بأهلها خيرًا، فإن لكم فيها صهرًا ونسبًا. في هذا الكتيب تعرف أيضًا أن السيدة نفيسة حجت ثلاثين حجة وكانت تتعلق بأستار الكعبة وهي تطوف وتبكي وتقول: إلهي وسيدي ومولاي.. متعتني وفرحتني برضاك عني فلا تسبب لي سببا يحجبني عنك، إلهي سهل لي زيارة قبر خليلك ونبيك إبراهيم عليه السلام فأجاب الله طلبها وزارت قبره الشريف بعد آخر حجة لها أوائل عام 193 ثم توجهت الى مصر مع والدها حسن الأنور وزوجها اسحاق المؤتمن وولدها القاسم وابنتها أم كلثوم. في قلب الحبيب شوقًا وحبًا وغيرة على محبوبه، فشهدت اللحظة الأولى لسيدة هذا الضريح سباق المصريون للفوز بشرف ضيافتها، فحظى بكرامتها كبير تجار مصر جمال الدين عبد الله بن الحصاص، إذ مكثت بداره أشهرًا، والناس يأتون إليها للتبرك بها والاستفادة من علمها. بدأت أولى كرامات السيدة نفسية في مصر، مع رجل يهودي يدعى "أبو السرايا أيوب بن صابر" له ابنة مقعدة توجه بها إلى السيدة نفيسة واستأذنها في البقاء عندها حتى تعود من الحمام فأذنت لها، ولما جاء وقت صلاة الظهر توضأت السيدة نفيسة بجانب الفتاة المقعدة فجرى ماء الوضوء إليها وألهمها الله أن تمسح بذلك الماء أعضاءها فتحركت وشفيت من مرضها وعندما شاهدتها أمها بكت بكاء شديدا ولما حضر والد البنت وعلم ما حدث أسلم وأسلمت معه زوجته وابنته وشاع الخبر في العائلة فأسلم أهلها وكانوا نحو سبعين يهودياً بسبب هذه الكرامة وأصر الرجل على انتقال السيدة نفيسة إلى بيته بدرب الكروبيين بجوار مسجد المعرف بشارع القبر الطويل بالحسينية -وما زالت هذه الدار موجودة حتى الآن وكذلك الحجرة التي كانت تتعبد فيها-. عندما ذاعت كرامات السيدة نفيسة في مصر هرع إليها الناس من كل جهة فازدحموا على بابها وضاق بهم البيت، فعزمت السيدة على الرحيل إلى الحجاز ولكن أهل مصر تمسكوا بها وتوجهوا إلى أمير مصر "السري بن الحكم" يطلبون منه التدخل لابقاء السيدة نفيسة في مصر فذهب اليها واستطاع اقناعها بالبقاء. أقامت السيدة نفيسة في مصر 15 عامًا؛ خلالهم التقت بالإمام الشافعي، فكان يزورها كثيرًا ويستمع منها للحديث ويقرأه عليها وكان إذا مرض أرسل اليها أحد أصحابه يطلب منها الدعاء له بالشفاء، يقولون أيضًا أنها شاهدت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في منامها يأمرها بالاقامة في مصر ويخبرها بوفاتها فيها فقامت بحفر قبرها الشريف في دار أبي جعفر خالد بن هارون السلمي- المعروف الآن بمسجدها بالمشهد النفيسي- ولما جاءها مرض الموت أرسلت لزوجها اسحاق المؤتمن تستحضره إليها من المدينة. وزاد بها المرض في أول جمعة من رمضان عام 208ه، فأشار عليها الأطباء بالافطار لما رأوا بها من ضعف فقالت معاذ الله، ثم قالت اصرفوا عني طبيبي ودعوني وحبيبي، ولما فاضت روحها الشريفة أراد زوجها أن ينقلها إلى البقيع عند جدها عليه الصلاة والسلام، ولكن أهل مصر تمسكوا بها وطلبوا منه أن يدفنها عندهم فأبى، ولكنه رأى في منامه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بذلك فدفنها في قبرها الذي حفرته بنفسها في مصر. تغلق أخر صفحة في الكتاب لتزداد شوقًا وحبًا لهذه السيدة أكثر، ثم تنهض لتصلي ركعتين في رحاب المشهد النفسي، لتلقي أخر نظرة على الضريح وتغمض عيناك وتبتسم وترحل.