إن العلوم والفنون والآداب التي أبدعتها الأمم بتجلياتها الروحية والمادية، وما أفرزته من نظم وتقاليد وعمران، تعد جميعها من التاريخ الحضاري، كما يعد روادها ومبدعوها رموزا تاريخيين للأمم التي أنجبتهم، وفي حسابات الشعوب، فإن الإرث الحضاري هو معين للحاضر، بقدر كونه أثيل مجد، هو معين للحاضر لأنه أحد ركائز النهوض الروحي والمادي، وهو أثيل مجد لكونه مصدر شعور بالتميز بين الشعوب والأمم. يترجم التاريخ الحضاري في التحليل الأخير على أنه ثقلا معنويا وماديا للدول، ليغدو جزءا من وزنها الجيوسياسي، وتشتهر سوريا بآثارها التاريخية وعراقة حضارتها، بداية من فجر التاريخ وصولا إلى التاريخ الإسلامي المتمثل في المسجد الأموي وغيره من الآثار الشامخة التي تقع الآن فريسة الحرب الأهلية منذ 2011، وكأية دولة أخرى، يمكن النظر إلى تاريخ سوريا الحضاري باعتباره أحد روافد حاضرها الثقافي والاجتماعي، وبالضرورة المادي. بيد أن هذا التاريخ، الذي ألقى بظلاله على كافة مناحي الحياة، يتعرض اليوم لحملة عبثية، تستهدف معالمه ورموزه، والرسالة التي بشر بها، حيث تتوالى الأخبار، بوجه خاص، عن استهداف الآثار، ومقامات الأولياء، والمجسمات التي تخلد الأدباء والعلماء العظام. منذ القدم كانت سوريا مهد التاريخ والحضارات والأديان، على ساحلها وجدت لوحات الأبجدية الأولى في رأس شمرا- أوغاريت، وتعتبر دمشق أقدم مدينة مأهولة في العالم، اليوم، وتحت عناوين شتى، يتم تدمير هذا الإرث الثقافي، وتخرب الآثار أو تنهب أو تهرب، تماما مثلما حدث في العراق، فيمحى تاريخ الشرق وتدفن ذاكرة الزمان والانسان. حاولت السلطات المعنية السورية انقاذ ما أمكن من الكنوز والقطع الأثرية الموزعة على 11 متحفا وطنيا، ووضعت خطة حماية استراتيجيّة، لكن ماذا يمكنها أن تفعل لحماية المواقع حيث كانت تجري تنقيبات وحفريات أثرية، تقوم بها نحو مئة بعثة أثرية أجنبية وعربية وسورية، في مختلف المحافظات والمناطق. تبين للمعنيين أن سوق الاتجار بالآثار السورية ازدهر في لبنان ، فتم التعاون مع مديرية الآثار في لبنان و"الانتربول" ومنظمات دولية أخرى في مجال مكافحة الإتجار بالآثار السورية، وأثمر عن مصادرة 18 لوحة فسيفساء سورية على الحدود اللبنانية – السورية، و 73 قطعة أثرية مهربة كانت معروضة للبيع لدى تجار آثار، كشفت صحيفة "صنداي تايمز" البريطانية عن جزء منها. عدوان داعش على سورياوالعراق كان مصحوبا بتهريب وسرقة للآثار فى هذه المناطق، حيث تقوم داعش بمساعدة سكان المنطقة بحفر المناطق الأثرية واستخراج الآثار مقابل "ضريبة الخمس" التى يفرضها الإسلام على قيمة أى شىء يستخرج من الأرض، تتراوح هذه الضريبة طبقا للمنطقة التى تم استخراج القطعة الأثرية منها، يعطي التنظيم الإرهابي نسبة 20% على مستخرجات مدينة حلب فى سوريا و تعطى نسبة قد تصل ل50% بالنسبة لمدينة الرقة السورية، خاصة إذا كانت الآثار تعود للعصر الإسلامي أو مصنوعة من الذهب. تقوم داعش ببيع الآثار بعد استخراجها لزيادة مصادر تمويلها، والجدير بالذكر أن هناك مناطق أثرية يقوم قادة داعش أنفسهم على مراقبتها أثناء الحفر لأهمية الآثار الموجودة بها. آثار سورياوالعراق تنعش خزائن داعش، وتملأ متاحف إسرائيل وأمريكا وألمانيا وعددا من الدول العربية، حيث يتاجر التنظيم بتاريخ الدولتين ليوسع رقعة دولته، في محافظة نينوى شمال البلاد وضع التنظيم يده على 2000 موقع أثري من بين 12 ألف موقع مسجل في العراق بحسب تقرير أصدرته منظمة اليونيسكو،أما في الموصل فجمع داعش المخطوطات التاريخية من الكنائس التراثية المهمة، والتي تقدّر بأكثر 1500 مخطوطة، وعمد إلى حرقها. طريقان للتهريب يعتمدهما داعش، جزء كبير من الآثار هرب عن طريق تركيا إلى السوق السوداء، والجزء الآخر سلك طريق الأردن، أكثر من مليار دولار جناه داعش من سرقة آثار لا تقدر بثمن بحسب رئيسة بعثة الإتحاد الأوروبي في العراق، تقول يانا هيباشكوفا إن بعض الآثار المسروقة تعرض في مزادات علنية في أبو ظبي وألمانيا وبعضها وصل إلى تل ابيب وواشنطن. وقال مسؤولون عراقيون وغربيون إن قطعا أثرية عراقية تعرض في السوق السوداء، وإن تنظيم داعش يستعين بوسطاء لبيع كنوز لا تقدر بثمن بعد اجتياحهم شمال البلاد، واكتسب التنظيم قدرا من الخبرة في تجارة الآثار بعد سيطرته على مساحات واسعة في سوريا، وحين سيطر على الموصل في حزيران وضع يده على نحو 2000 موقع أثري من بين 12 ألف موقع مسجل في العراق. وحذر قيس حسين رشيد، مدير دائرة المتاحف العراقية، في كلمته أمام مؤتمر لمنظمة الأممالمتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في باريس من المخاطر التي تحدق بالتراث العراقي قائلا إن جماعات منظمة تعمل بالتنسيق مع داعش، وأضاف "سرقت لوحات آشورية وتوجد الآن في مدن أوروبية بعضها جرى تقطيعها وتباع مجزأة". وفي هجمات تعيد للأذهان ما حدث في أفغانستان ومالي دمر مسلحون في الموصل تمثال عثمان الموصلي وهو موسيقي وملحن عراقي من القرن التاسع عشر وتمثال الشاعر العباسي أبي تمام. وفي ضوء هذا القلق الدولي والإحصائيات الواردة، يكون التعويل الأكبر على السوريين أنفسهم، لأن هذا التراث يعود لكل أبناء الشعب السوري بغض النظر عن اختلافاتهم السياسية أو الفكرية، ولا بد على جميع الأطراف المعنية (نظام ومعارضة) من الحفاظ على الإرث الحضاري والتاريخي للبلاد، والذي يعد جزءا أساسيا من هوية الإنسان السوري عبر التاريخ والزمان.