شهدت تحركات أنقرة الخارجية خلال الفترة القليلة الماضية حدثين شديدي الأهمية لم يحظيا بالاهتمام الإعلامي المناسب ولكن توقف عنده عدد من المراقبين والمحللين، الأول زيارة الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" إلى الجزائر، والثاني زيارة رئيس وزرائه "داود أوغلو" إلى العراق والتي شملت أيضًا إقليم كردستان. الغريب في هاتين الزيارتين ليس فقط في تزامنهما، إنما في التوجه إلى بلدين لم يعرف عنهما الود تجاه السياسية التركية في السنوات الأخيرة ، فالمسئولين العراقيين طالما اتهموا الإدارة التركية بدعم الجماعات المعارضة والعمل على زعزعة استقرار العراق وتشجيعهم على اعتماد الخطاب الطائفي، وكثير من الأوقات اتهمت بغدادتركيا صراحة بدعم «داعش» وتزويدها العتاد الضروري لكي تستولي على مناطق واسعة في العراق وسوريا فضلًا عن الاتفاقيات التي وقعتها أنقرة مع «إقليم كردستان العراق" لتزويدها بالطاقة وهو ما رفضته العراق أكثر من مرة. الجزائر أيضًا لم تكن على علاقة طيبة بالإدارة التركية لاسيما أنها هي من تدعم الحركات الإسلامية في المغرب العربي، والتي دائمًا ما تعارض حكومة بوتفليقة، فضلًا عن أن الحذر الجزائري من السياسة التركية قائم على التورط التركي في دعم جماعات مسلحة بليبيا وهي تشكل خطرًا على الحدود الجزائرية، بالإضافة إلى أن الخلاف بين الدولتين كان واضحًا في الأزمة السورية، فالجزائر انتهجت سياسات متحفظة بخلاف تركيا التي تدعم المعارضة السورية ضد الحكومة. هذه الزيارات التي أجراها "أردوغان" ورئيس حكومته، دفعت المراقبين والمحللين إلي تساؤلات عدة حول دفع أنقرة إلى هذه الخطوات المفاجئة تجاه دولتين أٌقل ما يقال في علاقتهما بها أنها تشوبها قلة الثقة والحذر الشديد وفقدان الود، لكن هناك عدة أسباب أجبرت تركيا على تتبني سياسية جديدة ومفاجئة أبرزها مايلي: 1- المصالحة الخليجية وسقوط الإخوان شعور القيادة التركية بأنّ دوَل مجلس التعاون الخليجي بقيادة المملكة العربية السعودية، قد نجحَت في استعادة قطر إلى بيت الطاعة الخليجي، بكلّ ما يعنيه ذلك من التراجع عن سياسات لم تكن تُرضي شقيقاتها في المجلس، فعودة الدوحة إلى محيطها الخليجي قد جعلت من أنقرة معزولةً عن أيّ حليف عربي، بالإضافة إلى الخسائر التي تكبَّدَتها من جرّاء سقوط حُكم «الإخوان المسلمين» في مصر، وتراجُع حركة «النهضة» في تونس، والضربة التي تلقّاها «التجمّع اليمني للإصلاح» الموالي ل«الإخوان» على يد حركة «أنصار الله» في اليمن. 2- علاقات أنقرة مع دول الجوار يشوبها التوتر العامل الآخر هو إدراك تركيا بأنّ علاقاتها مع جيرانها الإقليميين ليست على ما يُرام، خاصة مع « روسيا وإيران وقبرص واليونان وأرمنيا، ويعود ذلك إلى موقفها من الأزمة السورية فضلًا عن مشاكلها مع دول البحر المتوسط في ما يخص تنقيبها على الغاز بالمناطق الاقتصادية الخالصة بهم، كما محاولتِها توسيعَ نفوذِها في الإقليم كلّه بما يجعلها دولةً عظمى تحاول استعادة وهجِ الإمبراطورية العثمانية وسيطرتها على كلّ الدوَل التي كانت تحت حكمها في غابر الزمان. 3- خسارة تركيا مقعدها في مجلس الأمن صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي على اختيار الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن، كانت تركيا تعتقد بكل ثقة أنها ستحصل على مقعد، لكن الأمر المخجل هي أنها خسرت هذا المقعد لصالح أسبانيا ونيوزيلندا، وهي صفعة في وجه أردوغان الذي انتخب رئيسا في أغسطس الماضي. يرى مراقبون أن خسارة تركيا لمقعد مجلس الأمن الدولي بالأمم المتحدة لم يأت من فراغ وإنما نتيجة طبيعية وهى رسالة واضحة على رفض دول العالم للسياسات التي يتبعها الرئيس التركى رجب طيب أردوغان وتحذير له أنه لا يستطيع الاستمرار في إدعاءه بالديمقراطية ثم يدعم من جهة أخرى أبرز الجماعات المتطرفة بالمنطقة. 4- اهتزاز العلاقة بين أنقرة وواشنطن عامل آخر رأت تركيا فيه سببًا بأن تتجه إلى تغير سياستها الخارجية نسبيًا وهو اهتزاز العلاقة بين أنقرة وواشنطن، خاصة في ظلّ التردّد التركي عن الانضمام إلى التحالف الدولي الذي تدعى أمريكا أنها تقوده بحجة مكافحة الإرهاب، لا بل أيضًا تصريحات مسئولين أمريكيين بأنّ لتركيا دور كبير في تسليح «داعش»، وتمويلها وتوسيع الممرّات الآمنة لمقاتليها، ما أدت إلى توسيع فجوة الخلاف بين تركيا والولايات المتحدةالأمريكية، وهو ما سعى نائب الرئيس الأمريكي جون بايدن في إعادة العلاقة إلى مجراها الطبيعي مرة أخرى خلال زيارته الأخيرة لاسطنبول، لكن هذه الزيارة لم تقدم أي جديد يذكر خاصة بعد ظهور الإصرار التركي على رحيل نظام الأسد مقابل انضمامها للتحالف الدولي ضد «داعش». 5- خسارة «تركيا» بالربيع العربي تركيا تحت إدارة أدروغان طنت في وقت ما أنها قادرة على قيادة «الربيع العربي» بظروفه المعقدة، لكن في الفترة الأخيرة يرى المحللون أن هناك إحساسٌ تركيّ متزايد بضرورة إجراء مراجعة لا تنفع معها العنجهية والإحساس المبالغ فيه بالقوّة التي وقعت السياسة التركية في شرورها منذ إندلاع هذه الثورات وحتى الآن. ومن قراءة هذه السطور السابقة يتضح لنا أنّ الزيارات الأخيرة للمسئولين الأتراك تعني أن هناك نصف تحوّل في السياسة الخارجية التركية، كما أنّها مؤشّر لبداية مراجعة لسياسات تركيا الخارجية في الآونة الأخيرة.