تقف العلاقات التركية – الروسية على بحر من العداء التاريخي منذ الحروب المتتالية بين الدولة العثمانية وروسيا القيصرية مرورا بمرحلة الحرب الباردة عندما كانت تركيا تقوم بدور الشرطي الأطلسي في مواجهة الاتحاد السوفييتي السابق وليس انتهاء بالصدام المتعدد المستوى تجاه الأزمة السورية ومجمل السياسات في الشرق الأوسط، ولعل مصدر هذا العداء والصدام هو التناقض في الاستراتيجيات والاختلاف في السياسات والرؤى على الرغم من الحجم الكبير من المصالح المشتركة والعلاقات الاقتصادية القوية بين البلدين. وفقا لصحيفة "موسكو تايمز" الروسية الصادرة باللغة الإنجليزية، كثف الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" خطابه العدائي العرفي ضد حكومة الرئيس السوري "بشار الأسد"، فقد أبلغ نظيره الروسي"فلاديمر بوتين" أن تركيا لا يمكن أن تصمت على المجزرة البشرية في سوريا، الدولة العربية التي مزقتها الحرب، ولكن المفاجأة كانت أن تحذيرات "أردوغان" أغضبت "بوتين" بشدة. وتضيف الصحيفة أن "بوتين" منزعج من التدخل التركي في الشؤون السورية، وإلا ستكون روسيا في وجه تركيا لمنعها من نشر الحرب الكارثية في المنطقة، فصدم "أردوغان" وسأل "بوتين" عما إذا كان هذا يعني تهديدا مباشرا لتركيا، فأجابه الرئيس الروسي:"افهمها كما شئت"، وذّكر الرئيس الروسي "أردوغان" بالحقائق المريرة وسياسة تركيا الخاطئة والعدوانية تجاه الأزمة في سوريا، والتي ساهمت في مقتل عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء، ودعا "بوتين" الرئيس التركي الذي يعاني من أوهام العظمة بالامتناع عن دعم الإرهابيين الذين أنشأوا معسكرات تدريب ومناطق أمنية على أراضي تركيا. من جانبه، يقول الدكتور "عصمت البيرقدار"، أستاذ متخصص في التاريخ السياسي والاجتماعي للدولة العثمانية وتركيا الحديثة:" اعتقد أن أردوغان يحاول ردع بوتين عن دعمه الكبير للحكومة السورية". على الرغم من أهمية العلاقات الاقتصادية بين البلدين، إلا أن ثمة حربا باردة خفية مستمرة بين موسكووأنقرة، تعززها تصرفات تركيا والتي تبدو وكأنها أسيرة دورها الوظيفي في الإستراتيجية الغربية منذ أن توجهت تركيا الحديثة إلى الارتباط بالغرب عضويا وقيامها بدور الراقص الإقليمي الأكثر خطورة لجهة تهديد ما تراه روسيا لأمنها القومي. بعيدا عن ما قامت به تركيا سابقا في أفغانستان في مرحلة الاتحاد السوفييتي ترى روسيا أن أنقرة تلعب دورا خطرا في الأزمة السورية، منذ أن تورطت أنقرة في هذه الأزمة سياسيا وعسكريا، والمسألة بالنسبة لروسيا لا تتعلق باحتضان تركيا للمعارضة السورية السياسية والمسلحة، بل بجملة الإجراءات التركية وما تشكل هذه الإجراءات من تهديد لأمن روسيا والمنطقة ككل، خصوصا في ظل إصرار حكومة حزب العدالة والتنمية بزعامة "رجب طيب أردوغان" على إسقاط النظام السوري وتجاهل الحل السلمي للأزمة. ولعل من أهم الإجراءات التركية التي تشكل قلقا لروسيا، نشر تركيا منظومة الدروع الصاروخية الأمريكية – الأطلسية على أراضيها حتى دون موافقة البرلمان التركي وعلى الرغم من الاعتراضات الروسية والإيرانية حيث يرى البلدان في هذه المنظومة تهديدا لأمنهما والمنطقة ككل. إسقاط النظام السوري كما تصر أنقرة عليه يعني إخراج روسيا من منطقة المتوسط، فضلا عن سلسلة تداعيات هائلة على شكل خسارة كبيرة للأمن القومي الروسي في وقت ترى روسيا أن سوريا تشكل عمقا استراتيجيا لها ولا يمكن التخلي عنها بأي شكل من الأشكال، خصوصا في ظل بقاء قاعدة عسكرية وحيدة لها في البحر المتوسط وهي قاعدة طرطوس، وهي بجميع الأحوال ترفض تكرار تجربة ليبيا مع سوريا، وهي في سبيل ذلك استخدمت إلى جانب الصين الفيتو مرارا في مجلس الأمن. بالنسبة لروسيا فإن التحرك التركي الحثيث تجاه سوريا والمنطقة العربية بشكل عام في ظل مناخ ما سمي (بثورات الربيع العربي) غير بعيد عن البعد الإيديولوجي المرتبط بصعود حركات الأخوان المسلمين إلى سدة المشهد السياسي العربي، كما كان في مصر وتونس وليبيا والأردن ومحاولات الوصول إلى السلطة في سوريا، ومثل هذا البعد الإيديولوجي غير بعيد عن التطلعات التركية التي لها علاقة بالعثمانية الجديدة من خلال تسويق النموذج التركي بوصفه نموذجا ناجحا وفق بين الإسلام والعلمانية والاقتصاد كما يروج قادة حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم في تركيا والذي هو في الحقيقة شكل من أشكال تنظيمات الإخوان المسلمين، وهذا أمر يؤرق روسيا التي تخشى من تفجر سلسلة هائلة من المشكلات الاجتماعية والسياسية والدينية داخل البيت الروسي الجغرافي وتحديدا في الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى التي كانت حتى وقت قريب جزء من الاتحاد السوفييتي قبل انهياره، وهي في العموم جمهوريات غنية بالنفط والغاز بما تشكل قيمة إستراتيجية لروسيا وتطلعاتها الإقليمية. في مقابل الهواجس الروسية هذه. في الواقع، مع التأكيد على أن روسيا التي تخوض صراعا استراتيجيا مع الغرب على الشرق الأوسط ترى أن الموقف التركي إزاء الأزمة السورية ليس سوى موقف وظيفي في المنظومة الإستراتيجية للغرب، فأنها انطلاقا من مصالحها الإستراتيجية ترى أن لا شيء يستحق تغيير موقفها من الأزمة السورية، وعليه جاء لقاء أنقرة بين بوتين – أردوغان في شقه السوري بمثابة لقاء تثبيت المواقف لا أكثر. دون شك، النظام السوري وبخططه العسكرية نجح في الصمود أمام الجهود الرامية لإسقاطه منذ بدء الأزمة، وبفضل ذلك نجح كذلك في تأمين موقف روسي متمسك به إلى درجة أن هذا الموقف إلى جانب مواقف كل من الصين وإيران والعراق وحزب الله أحدث حالة من الاصطفاف الإقليمي والدولي تجاه الأزمة السورية. ضمن هذه الحسابات الإستراتيجية، يمكن القول إنه من الاستحالة السياسية أن تتخلى روسيا عن حليف قديم منذ أيام الرئيس "حافظ الأسد" وشريك استراتيجي قديم – جديد، يشكل قيمة أمنية عالية في الإستراتيجية الروسية، وعليه فإن مسألة تفجير العلاقات الروسية – التركية تبقى قائمة طالما أن تركيا تصر على إسقاط النظام السوري وتتخذ سلسلة من الخطوات والإجراءات العسكرية المتتالية على شكل استعداد لحرب مخطط لها. ما سبق لا يعني أن روسيا لا تريد حلا للأزمة السورية، فهي تسعى جاهدة إلى هذا الحل عبر مرحلة انتقالية والحصول على ضمانات كافية لتحقيق الاستقرار وتأمين مصالحها الإستراتيجية، وهي بغير ذلك لن تتراجع عن سياستها بخصوص تمسكها بالنظام السوري، وهي عندما تتمسك بهذه السياسة تنظر إلى المسألة في إطار إقليمي استراتيجي، أي النظر إلى أهمية العلاقات المتينة بين سوريا وإيران والعراق كوحدة إقليمية سياسية تمتلك المزيد من عناصر القوة والقادرة على خلط الأوراق في المنطقة إذا ما أصرت تركيا على نهج التصعيد واختيار الحل العسكري لتغيير الخرائط السياسية وربما الجغرافية في المنطقة. في الواقع، تبدو العلاقة الروسية – التركية وكأنها أمام مرحلة مصيرية بسبب الأزمة السورية، فبقدر الحرص على تطويرها اقتصاديا وصولا إلى شراكة حيوية مفتوحة ولاسيما في مجال مشاريع الطاقة من نفط وغاز بقدر ما تبدو أمام استحقاق أمني استراتيجي خطر لا تبدو روسيا بصدد التنازل عنه حتى لو أدى ذلك إلى تفجير العلاقة مع أنقرة في لحظة ما من لحظات تطور الأزمة السورية.