لا ينفك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن استغلال المتغيرات السياسية في المنطقة لخدمة مشروعه السلطوي المتجذر في وعيه ووعي حزبه والطبقة السياسية المسيطرة في تركيا بشوائب الخلافة العثمانية، فبداية من الأزمة السورية وحتى محاولات تنظيم الدولة الإسلامية دخول مدينة عين العرب/كوباني، بتسهيلات وتواطؤ تركي ضد مئات الآلاف من أكراد سوريا الذين عمدوا عقب اندلاع الأزمة في سوريا إلى تنظيم مناطقهم ومدنهم في شكل إدارة ذاتية تسير أوجه الحياة بشكل طبيعي عقب انسحاب مظاهر الدولة السورية من أمن وطاقة وغذاء، وهو ما عجل بصدام بين المعارضة المسلحة وبين وحدات الحماية الشعبية الكردية في أواخر 2011، بإيعاز من الحكومة التركية التي سعت إلى ضمان أن يسيطر تابعيها من المسلحين في سوريا على التخوم الحدودية بين البلدين، وذلك لأهداف استراتيجية تتبناها السلطة في تركيا وأهمها ضمان عدم تمدد أكراد سوريا إلى الفراغ الذي شكله انسحاب وتراجع الدولة السورية من مناطق الشمال والشمال الغربي، بهدف تقويض حلم الدولة الكردية التي ينشدها ملايين الأكراد على امتداد خارطة موطنهم التاريخي المنقسم بين أربعة دول. قبل يومين وقف أردوغان أمام حشد من اللاجئين السوريين معلناً قرب سقوط كوباني، وأن ذلك يحدث بسبب عدم الاستجابة لمطالب تركيا من جانب المجتمع الدولي والتحالف ضد داعش، ولخص مطالبه في منطقة حظر طيران ومنطقة عازلة موازية لها، وتدريب المعارضين السوريين والعراقيين "المعتدلين". والشروط السابقة كانت طرحتها أنقرة بعد ضغوط أميركية للتعجيل بمشاركتها وفق رؤية وإستراتيجية أوباما، وأيضاً بعد الإعلان عن شكوك دول أوربية على رأسها فرنسا وألمانيا تجاه دعم أنقرة للإرهابيين وتلكؤها في الإعلان عن موقفها من التحالف، وهو ما دعى إلى اتهام مباشر من هذه الدول بأن تركيا عملت في السنوات الأخيرة لتعزيز انتقال الأوربيين إلى سوريا ومواصلة الدعم المادي والعسكري واللوجيستي للجماعات المسلحة وعلى رأسها داعش والنُصرة فلم يتبقى أمام تركيا إزاء هذا إلا أن تتراجع في سياساتها الداعمة للإرهابيين، حتى ولو بشكل دعائي، وهو ما حدث خلال الأسابيع الأخيرة بعد إعلان تركيا مشاركتها في الحرب ضد داعش ولكن وفق شروط سابقة، والانخراط في التسويات والترتيبات الاقليمية والدولية التي تهدف لمواجهة هذا الخطر الوجودي، أو تتحول تركيا من دولة تحظى بوضع إقليمي ودولي مميز إلى الدولة الأولى في رعاية الإرهاب، وهو ما تم توظيفه بعد ذلك في تدوير الزوايا لمصلحة، فمن ناحية أوضحت حكومة أوغلوا في أيامها الأولى أنه على دول التحالف أن لا تتخلى عن هدف إسقاط نظام الأسد بموازاة الحرب ضد داعش، وكذلك عدم السماح لحزب العمال الكردستاني والتنظيمات السياسية والعسكرية التي تعمل تحت مظلته ومرجعيته في المناطق الكردية في سورياوالعراق بتحقيق أي مكاسب أو اعتراف دولي ضمني بشرعية معاركة ضد داعش في سوريا، وإنهاء تجربة الإدارة الذاتية للأكراد في سوريا، وأخيراً استغلال المتغيرات الأخيرة المعنونة بالحرب ضد داعش في تحسين الوضع الإقليمي المتردي لتركيا، الدولة التي كان يفخر رئيس وزرائها الحالي ووزير خارجيتها السابق أحمد داوود أوغلوا قبل أربعة سنوات سنوات بأن دولته لديها معدل صفر مشاكل مع جيرانها، ليتحول الأمر بعد ثلاث سنوات من الأزمة السورية والتورط التركي فيها نهاية بالإطاحة بالإخوان المسلمين في مصر إلى أنه لا توجد دولة في المنطقة ليس لديها مشاكل مع تركيا، وهو ما أفقد منظومة العدالة والتنمية منذ صعودها وحتى الأن المرتكز الرئيسي للسياسة الخارجية لهذا الحزب وهذه الطبقة السياسية الحاكمة قبل ما يربوا عن عشرة سنوات، وهي التوجه للشرق العربي بديل عن أوربا، التي رفضت على مدار العقود الأربعة الماضية اعتبار تركيا بلداً أوربية. في السياق السابق ذاته ذكرت افتتاحية صحيفة نيويورك تايمز الأميركية التي حملت عنوان "لعبة أردوغان الخطيرة" أن طموح أردوغان السابق لقيادة العالم الإسلامي لا يتوافق مع موقفه السلبي تجاه ما يحدث في كوباني، حيث تقف الدبابات التركية على بعد ميل واحد لمنع المساعدات وقطع الامدادات عن المقاتلين الأكراد، في الوقت الذي يحاول فيه استجلاب مساعدة الولاياتالمتحدة لجعل إسقاط نظام الأسد ذا أولوية توازي أولوية تحجيم دور داعش، وهو عكس ما كان محقاً فيه الرئيس الأميركي باراك أوباما، الذي يرى التركيز على تفكيك داعش وليس ملاحقة الأسد، وأن التباين بين رؤية واشنطنوأنقرة في هذا الصدد تهدد التحالف المكون من أكثر من 50 دولة، وأنه على الرغم من سعي الأميركيين إلى تضييق الخلاف مع أردوغان إلا أن ذلك الأمر يطرح تساؤل عن مستقبل التحالف حتى قبل التحرك داخل سوريا. من جهة أخرى يرى الباحث والمحلل السياسي ومدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، سونر جاغابتاي، أنه لا خلاف بين الرؤية الأميركية والتركية للقضاء على داعش، بل انه على العكس هناك توافق ضمني فرضته رغبة النظام الحاكم في تركيا في إسقاط الأسد ورغبة الأميركيين وحلفاءهم الإقليميين في الأمر نفسه، وأن التباين بين واشنطنوأنقرة يكمن في عدم رغبة تركيا في حل مؤقت، على حد قول الرئيس التركي، الذي رأى أن هناك استغلال لتركيا يضر بها على المستوى البعيد إذا لم يكن هناك حل مناسب للأزمة القائمة حاليا، وهو ما أعقبه موافقة الأتراك على تفويض لحكومة أوغلوا يسمح بنشر قوات اجنبية على الأراضي التركية تمهيداً لعمل عسكري ضد داعش في سوريا أو العراق. ويتابع سونر بالقول أنه من أولويات تركيا في سوريا أن يتم إخضاع حزب العمال الكردستاني، وهو ما تم خلال السنوات الماضية على مراحل كان أخرها خلال السنوات العشر الماضية من تحسين علاقة أنقرة بأكراد العراق وعلى رأسهم رئيس حكومة الإقليم مسعود بارزاني، والحكومة الأخيرة رأت في بداية اجتياح داعش لمناطق ومدن العراق أنها بمأمن عن ذلك بسبب علاقاتها المميزة بأنقرة، وهو ما يحيد أكراد العراق عموما ويبعدهم عن مظلة حزب العمال، الذي سيطر خلال السنوات الماضية على ثلاث مناطق كردية في سوريا هي عفرين وكوباني والجزيرة وإعلان إدارتها ذاتياً من قبل أعضاء وعناصر حزب الاتحاد الديمقراطي، وهو ما مثل كابوساً سياسياً لتركيا، التي سعت خلال السنوات الماضية إلى وصم الأكراد بالتعاون والتنسيق مع النظام السوري، ومحاولة المسلحين المدعومين من تركيا بداية من الجيش الحر ونهاية بالنُصرة وداعش على مرور السنوات الماضية دخول المناطق الكردية وإعلانها "مناطق محررة"، وبعد سيطرة داعش على الساحة القتالية في سوريا خلال الشهور الماضية، استمرت المناوشات بين وحدات حماية الشعب الكردية وعناصر داعش، وغالية هذه المناوشات والاشتباكات كانت بغرض تحديد مناطق النفوذ الكردي وحصرها في مثلث المدن الكردية الثلاثة. ويتفق ما طرحه سونر بما أعلن في وسائل إعلام كردية عن لقاء عقد مؤخراً بين صالح مسلم رئيس الاتحاد الديمقراطي وبين مسئولين أتراك في أنقرة منذ ثلاثة أيام نوقش خلاله تهديد داعش لكوباني وعرقلة تركيا وصول الإمدادات والمساعدات لسكان المدينة المدافعين عنها، ولتحقيق السابق اشترطت تركيا وقف تعامل الحزب وقطع علاقته بالدولة السورية، وإنهاء الإدارة الذاتية في شمال سوريا بما فيها كوباني وعفرين والجزيرة، والقبول بصيغة تعاون مشابهة للتي تحكم العلاقة بين أربيل وأنقرة، وذلك بهدف اضعاف حزب العمال الكردستاني وإبدال عناصره المسلحة في سوريا بعناصر "المعارضة المعتدلة" ولو تطلب ذلك عملية عسكرية برية للجيش التركي في سوريا يفضل أن تكون بغطاء دولي يضمن لأنقرة إبعاد شبهة الحرب الإقليمية بهدف التوسع في سوريا وتصفية القضية الكردية. إزاء التطورات الأخيرة، وبعد حوالي شهر من القتال الدائر في محيط كوباني، أتت ردود الأفعال الإقليمية والدولية على عكس ما تريد وتهدف تركيا، فمن اشتعال الداخل التركي بالمظاهرات وخاصة في المناطق ذات الأغلبية الكردية (يبلغ تعداد أكراد تركيا ما يزيد عن عشرين مليون نسمه)، وهو ما أسفر عن مقتل خمسة وعشرين شخص برصاص الأمن التركي، وهو يعيد إلى الأذهان سلسلة من العقبات الداخلية التي لا تنتهي من أن تولى أردوغان والعدالة والتنمية الحكم في تركيا، وبعد أزمات عدة خلال الأشهر الماضية بداية من أحداث ميدان تقسيم إلى انتفاض مدن كردية في جنوب شرق تركيا ضد سياسات العدالة والتنمية بسبب نهج تركيا المتواطئ ضد الأكراد إزاء ما يحدث في كوباني، وهو ما يعني أن تتفاقم الأزمة الداخلية في تركيا بسبب النهج المتهور المستمر للسياسة الخارجية لنظام أردوغان على مدار السنوات الثلاثة الماضية. يمكن القول أن هناك ثلاثة سيناريوهات رئيسية إزاء ما يحدث الأن في كوباني وآثاره على المتغيرات الموجودة في المنطقة، الأول: توغل تركي في سوريا بغطاء دولي وذلك يتطلب اشتباك تركيا مع داعش عسكرياً، وهو ما يعني أن تدفع تركيا ثمن تعاونها ودعمها لداعش بأن تعرض نفسها لخسائر عسكرية ومادية وبشرية كبيرة تمتد داخل تركيا. الثاني: هو إقامة منطقة عازلة على الحدود بين سورياوتركيا، سواء بتدخل عسكري تركي منفرد، أو بغطاء من التحالف الدولي، وذلك يعني حال حدوثه اعتراف دولي ضمني بنواة لإقليم كردي في سوريا. الثالث: تجميد المسار التفاوضي السلمي مع الحكومة التركية الذي يسلكه حزب العمال الكردستاني بمبادرة منه منذ سنوات والعودة إلى شن عمليات عسكرية في الداخل التركي ليس فقط في محيط تواجد عناصره في تركيا ولكن أيضاً امتداداً للداخل التركي، وذلك يرتبط بالتدخل التركي في سوريا سواء لمحاربة داعش –وهو أمر مستبعد حتى مع ضغوط أميركية- أو لفرض منطقة عازلة. أياً كان السيناريو الذي سيحدث خلال الأسابيع القليلة القادمة فأنه من المؤكد أن الأزمة الحالية التي يواجهها أردوغان ونظامه والتي ساهم في خلقها، لن تمر كمثيلاتها التي تعرض لها، وأن كوباني سواء بقيت صامدة أو دخلها تنظيم داعش فأنها مثلت بداية مرحلة جديدة في تاريخ المنطقة، عنوانها الرئيسي، تغير خريطة الواقع السياسي المتعارف عليه منذ عشرات السنين.