إنَّ ترسُّمَ الطريق إلى الوحدة العربية لا يمر إلا عبره، ولا يكون إلا من خلال ما تركه لنا من دراسات ٍفريدةٍ يلزم أن تدرس مرات ومرات من كافة الجوانب ، فهو أول مفكرٍ عربي يضع نظريةً وحدويةً علميةً جامعةً حول هذا الطريق، وهذه النظرية هي الضرورة الأولى لإيجاد وعي يكون هو الدليل والموجه لتحقيق الهدف، والعاصم من الانحراف عن بوصلة الوحدة. تحدّر من ( عكار) بلبنان ، وغيَّبته الأقدار في ( ديترويت) بالولايات المتحدة، وبين تينك اللحظتين قامت حياةٌ غمرت بمائها العذب الرقراق جدباء الفكر العربي الوحدوي؛ فأينع واستوى على سوقه، ثُمَّ أنَّه بذل له من عبير عقله الخلَّاق وأريج روحه المِعْطاء ما خلَّصه من شوائب لازمته دهرًا، فأفضت به إلى منعرج التيه وغرور الأماني؛ لذلك فليس من التزيُّد في شيء أن نقول عنه أنَّه علامةٌ بارزةٌ لا يمكن أن يُغضَّ الطرف عنها ، ولهبٌ ظلَّ مشتعلاً بقوة التحدي والإيمان بالوحدة لعقود، ومسيرةٌ من النضال الفكري المؤسس والمقاوم قلما تُضَارَع، ورؤيةٌ علميةٌ رصينةٌ تقف شامخةً عصيَّةً على المحو، أبية على الوأد، وإذا كان من بين المفكرين القوميين من يمكن أن يُعْزَى إليه الفضل في رسم الجادة الواضحة التي يمكن أن تصل بنا إلى تحقيق حقيقة الوحدة العربية، وإنهاء زمن التجزئة والتشرذم العربي ؛ فليس إلا واحد هو نديم البيطار. ويمكننا القول أنَّ إنتاج الدكتور نديم البيطار يعتبر ثورة فكرية بحق، بل هو نقطة التحول الأبرز في تاريخ الفكر العربي، وهو تأسيس لما يمكن تسميته بعلم الاجتماع العربي، وليس هذا مما يمكن الاستغناء عنه، أو إيجاد البديل له، فقد منح هذا الإنتاج الفكر العربي استقلاليته الفلسفية، مما جعل البعض يرون أنَّ (ابن خلدون) بُعِثَ مجددًا في البيطار على نحو ما. في كتابه الأهم ( من التجزئة إلى الوحدة ) يضع د. البيطار يده على الآفة المدمرة التي سيطرت لعقود على الفكر العربي الثوري، وهي أنَّ هذا الفكر "يتميز من ناحية ٍعامةٍ بطبيعةٍ تبشيريةٍ ، لأنَّه ينطلق – عادةً- من مجرداتٍ ومفاهيم أخلاقية وميتافيزيقية، ويدور حول رغباتٍ ذاتيةٍ يحاول فرضها على الواقع الاجتماعي التاريخي ، دون رجوعٍ إلى أو إدراكٍ للموضوعية المستقلة التي تميز ظواهر وتحولات هذا الواقع، أو القوانين والاتجاهات الانتظامية التي تسود هذه الموضوعية ". هذا الخلل الأساسي الذي يصفه د. البيطار في موضع آخر بالنزعة الرومانسية للفكر الوحدوي العربي والتي تبديه متلمسًا الطريق إلى الوحدة دون كبير اهتمامٍ بالرجوع إلى الظاهرة الوحدوية كونها تجربةً تاريخيةً عميقةً تنتقل فيها المجتمعات المجزَّأة أو الكيانات السياسية المستقلة من الانفصال إلى الاتحاد، فكان الأولى بهذا الفكر أن يراجع التجارب الوحدوية؛ ليدرس مانجح منها وما فشل ويقارن فيما بينها كي يكشف عن القوانين أو الاتجاهات الموضوعية التي كانت تسودها، ولا سبيل لإصلاح هذا الخلل سوى سبيل العلم الذي يستطيع" استخراج النظام الذي ينطوي عليه مجرى التحول الاجتماعى التاريخى- التركيب العام الذي يقف وراء عوالم الظواهر الاجتماعية و يسودها. إنَّه يحاول أن ينتزع من العالم الموضوعي الانتظامية المتكررة التى ينطوي عليها…لهذا يفرض المنهج العلمي الصحيح الانتقال من تجميع الوقائع والأحداث إلى القوانين أو الانتظامية العامة التي تكشف عنها". فلطالما حلت المواقف والمفاهيم التبشيرية والأخلاقية محل القوانين الموضوعية التي تحكم عملية التوحيد السياسي؛ فكان العمل الوحدوي – في غياب هذه المعرفة العلمية- نوعًا من العفوية التي تحولت إلى فخ يهدر الطاقات العربية عبثًا ودون فائدة، نتيجة لتحركاتها اللاعقلانية. ويرى د. البيطار أنَّ" السلوك الوحدوي العقلانى هو فقط السلوك الذي يستخدم وسائل ترتبط ارتباطًا موضوعيًا صحيحًا بالقصد الذي يسعى إليه، والذي يستطيع التمييز بين الطريق التي يمكنها أن تقود إلى هذا القصد وبين التي تكون عاجزة عن هذا، فيتبنى الأولى وإن كانت تعنى التضحية بمصالح ونجاحات مباشرة، ويرفض الثانية. وبما أنَّ الواقع الموضوعى يتميز بموضوعية مستقلة عن إرادة الفرد، فإنَّ العقلانية تعنى فكرًا يعبرعن هذه الموضوعية والاتجاهات الواحدة التي تسودها. ومن أجل أن يكون هذا السلوك أو العمل عقلانيًا؛ وجب عليه الاعتماد على نظرية علمية جامعة لتجارب التاريخ الوحدوية، تكشف له عن تلك الوسائل وهذه الطريق. ومن منطلق ما قال به( كانت) من أنَّه " لا يجب أن نقول، الماضى، الحاضر والمستقبل، بل الماضي ، المستقبل والحاضر" يرى د. البيطار أنَّ كل معرفة علمية تحاول – في الواقع – تحديد المستقبل عن طريق دراسة ما يكشف عنه الماضي من نظام لهذا كانت المقارنة التاريخية أساس هذه المعرفة؛ لأنَّها هي وحدها تستطيع أن تكشف عن هذا النظام الذي يعنى علاقات انتظامية أو قوانين واحدة. هذه القوانين التي توصل لها البيطار ورأى أنَّه من الممكن بإيجاد السبل إلى تطبيقها أن تصل أمتنا إلى الوحدة هي ثلاثة قوانين أساسية، وثمانية عشر قانونًا ثانويًا، والقانون الأساسي من بين القوانين الثلاثة الأساسية هو وجود الإقليم القاعدة الذي يقود عملية التوحيد السياسي وترتبط به هذه العملية في المجتمع المجزَّأ ، وقد ظل الإقليم القاعدة حاضرًا في جميع التجارب الوحدوية دونما استثناء، وثاني هذه القوانين السلطة المشخَّصة التي ترمز إلى المقاصد الثورية الوحدوية، أما ثالثها، فالمخاطر والتحديات الخارجية التي تولِّد الضغوط التي تحث المجتمع المجزَّأ على الاتحاد. أما القوانين الثانوية فأهمها: وجود لغة واحدة، تماثل الأنظمة السياسية بين الأقاليم المدعوة للاتحاد، تماثل التصورات الإيديولوجية، المنافع الاقتصادية ..إلخ، هذه القوانين أسماها د. البيطار ب ( الوضعية الوحدوية) التي يستحيل بدونها الوصول إلى الوحدة في أي مجتمعٍ مجزَّإٍ. وفي كتابه (حدود الإقليمية الجديدة) حدد د. نديم التناقضات المترابطة جدليًا، منها ما يدفع نحو تحقيق الوحدة ومنها ما يدفع نحو تكريس التجزئة، وذلك بغية مساندة الأولى ضد الثانية ، وفي كتابه (جذور الإقليمية الجديدة) حلل بشكل موضوعي علمي الأسباب التي خلقت الإقليمية الجديدة التي تهدد بأن تتحول التجزئة إلى حالة ثابتة ونهائية. وكانت الغاية إدراك هذه الأسباب، وبالتالي إعداد العمل الوحدوي وتجهيزه بصورة تتجاوز هذه الأسباب عن طريق هذا الإدراك ذاته. ومن اللافت للنظر أنَّ الدكتور نديم البيطار قد عاش معظم حياته بين كندا والولايات المتحدة – التي قضى فيها- متنقلاً للعمل بالتدريس بين جامعاتها، ولم يحدث أن درَّس في جامعة عربية وإن حاول ذلك في الخمسينات والستينات من القرن الماضي ، ولكن محاولاته باءت بالفشل، في تعبير واضح عن حالة التخلف العربي التي نعيشها، مما اضطره للعودة للتدريس في الجامعات الكندية ، مما مثَّل له فاجعة حقيقية حسب تعبيره ؛ ولأنَّ رُبَّ ضارةٍ نافعةٌ ، فلقد خدم هذا الفشل الذي باء به مفكرنا أيما خدمة إذ يسَّر له أن يكون موجودًا بالقرب من " مكتبات ضخمة كبيرة لا يمكن العمل الفكري دونها وخصوصًا عندما يكون هذا العمل من النوع الذي أقوم به، أو أي نوع آخر ينشغل بدراسات مستقبلية، أو بدراسات حول الحاضر من زاوية تاريخية، وباستخدام المنهج الاجتماعي أو التاريخي المقارن. بما أنَّ خدمتي لقضيتنا الوحدوية هي العمل الفكري وليس العمل السياسي، فإنَّ الأوضاع التي تكون أكثر ملاءمة لهذا العمل الفكري تكون الأوضاع الأكثر ضرورة لي. هذا النوع من المكتبات مفقود تمامًا وكليًا في الوطن العربي، لا يوجد شيء منها أبدًا في هذا الوطن، ماعدا مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت، ولكن هذه المكتبة هي (لاشيء) عند المقارنة مع المكتبات هنا، أي كتاب أريده يصلني إلى مكتبتي في الجامعة، إن كان غير متوفر في مكتبة الجامعة تستعيره هذه المكتبة من مكتبات أخرى وترسله لي خلال أربعة أسابيع". كما أنَّ وجوده هناك كان يعني الاستقلالية الفكرية التامة ؛ إذ أنَّه كان لا يدين بعمله لأي نظام عربي، ولا يستطيع أي نظام في الوطن العربي أن يضغط عليه عن طريق هذا العمل، كما لا يستطيع أن يؤثرأحدٌ في حريته أو أَّن يقمع هذه الحرية. كما أنَّ العزلة الاجتماعية التامة التي فرضها على نفسه قد أفادته كثيرًا في تفرُّغه لمشروعه الفكري إذ كان يرى المجتمع الأميركي مجتمعًا لا التزام فيه، و لا فائدة تُرجى أبداً من العمل الإعلامي الغربي ؛ فتوفر له من الوقت ما لم يكن ليتوفر له في الوطن العربي الذي هو ملتزمٌ بقضاياه مما يعني انشغالاتٍ متنوعة تكون خصمًا من وقته الثمين الذي وهبه للإنتاج الفكري، ومما يجدر ذكره أيضًا أنَّ الراحل الكريم لم ينشر أي كتاب باللغة الإنجليزية، ولا تجد له حتى مقالا واحدًا باللغة الإنجليزية، برغم أنَّه كان الأستاذ الجامعي العربي الوحيد في أمريكا الشمالية الذي توفر له ثقافته الواسعة وعلمه الغزير – النشر بالإنجليزية في أي مكان شاء، ولكنَّه كان يرى نفسه بوصفه ثوريًا عربيًا محضًا من واجبه أن تتركز كل جهوده في الكتابة العربية. يقول الدكتور البيطار معلقًا على هذا الأمر" إنني رفضت الكتابة بالإنكليزية لأنَّني لا أريد أن يقول أحد في المستقبل نديم البيطار- التهى عن قضيته بإعداد كتب أو مقالات في الإنكليزية قصد مكاسب مادية، شهرة، أو مرتب أحسن في الجامعة". وكان المستعرب ( باسيل كولينز) قد ترجم كتاب (الفعالية الثورية في النكبة) ولكن د. نديم اتفق معه ألا ينشر الكتاب إلى أن تصدر دراسته للفلسفة الاجتماعية حول التاريخ والتي بعنوان ( التاريخ دورات أيديولوجية) وهي دراسة عزم على نشرها بالإنكليزية لسببٍ واحدٍ فقط، هو أنَّه اعتبرها بمثابة انتصارٍ كبيرٍ للعقل العربي في التراث الفكري العالمي. رحل الدكتور نديم البيطار، وقد ترك لنا إرثًا فكريًا لا يدانى قيمةً ونفعًا، وليس أقل من أن يدرَّس هذا الفكر في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا؛ ليس تقديرًا لهذا العالم العظيم فحسب، بل لحاجتنا الماسَّة إلى مثل هذا الفكر الذي يشكل أهم اللبنات على طريق استعادة الوحدة.