وحاذر النظر إلى وجوه التفاسير، إلاّ لفهم لفظ مفرد غاب عنك مراد العرب منه، أو ارتباط مفرد بآخر خفي عليك متّصله، ثمّ اذهب إلى ما يشخصك القرآن إليه".. كلمات نصح بها الإمام محمد عبده تلميذا له، ليبين له منهجه في فهم القرآن، متمثلا في التحرر من قيود التفاسير، وأثقال السلف، وضرورة استكمال الأداة اللازمة لفهم أي نص عربي، وهي المعرفة الواسعة باللغة العربية، نحوها وصرفها وبلاغتها، وأساليب البيان العربي، لا سيما وقت نزول القرآن. لقد أراد الأستاذ الإمام أن يحرر عملية التفسير من قيود المرويات، والانحباس في زنازين فكرية تقادمت عليها القرون، وقد تجاوز في هذا الباب ميدان الدعوة إلى ميدان العمل، فجاء تفسيره لستة أجزاء من القرآن خاليا من مرويات ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن البصري، والسدي، بل خلا تفسيره من الأحاديث النبوية، وعندما اضطر إلى "حاشية" لتوضيح تفسيره ل "السائل" بأنه المستفهم لا طالب الصدقة، اعتذر عما اعتبره حشوا، ورجا ألا يعود لها أبدا، بل واستغفر ربه وكأنه وقع في ذنب واقترف إثما. لكن طبيعة النص القرآني لا تقبل منهج محمد عبده، فكثير من الآيات لا يمكن فهمها إلا بنقل المرويات، والاستعانة بالآثار والأخبار، ولا تجدي معها الإحاطة باللغة، أو علو الكعب في البلاغة، وهو ما يحتم وجود من نسميهم "مفسرين"، وظيفتهم تبيين المعنى العام الذي تعجز المعاجم عن إعطائه. وهب أننا جئنا الآن بإمام من أئمة اللغة، وبحر من بحورها، وطلبنا منه أن يفسر لنا الآية44 من سورة ص، وهي قوله تعالى "وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث، إنا وجدناه صابرا، نعم العبد، إنه أواب"، فإنه حتما لا يستطيع، ولا يتأتى له إدراك معناها، حتى لو كان عالما بمعنى جميع مفرداتها، فمعرفة مراد العرب بألفاظ "اليد" و"الضغث" و"الضرب" و"الحنث" لا تكفي لإدراك معنى الآية، وستجد نفسك مضطرا لمخالفة محمد عبده، وسترغم على "النظر في وجوه التفاسير"، التي ستنقل لك أخبارا عن ابن عباس وغيره، مفادها أن أيوب أقسم أن يضرب زوجه مئة جلدة، لأسباب يختلف فيها المفسرون كثيرا، فلما برأ من أسقامه، أمره الله أن يأخذ مئة عود من قش، أو نباتات ضعيفة، ويضرب زوجه بها ضربة واحدة، حتى لا يحنث في قسمه. ومثال آخر من نفس السورة، في قوله "وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَان وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَ أَنَابَ"، ومع الدراية التامة بمعاني المفردات، فإنه من المستحيل إدراك معنى الآية، إلا بالاستعانة بمرويات تضم حكايات أشبه بالأساطير، تحدثنا عن خاتم سليمان، الذي استولى عليه شيطان يسمى صخرا، وربما غير صخر، ثم جلس على كرسي الملك، وأطاعه خدم سليمان من الإنس والجن والطير، وسلطه الله على المملكة كلها، لكنه عصم منه أزواج سليمان، الذي هام على وجه يتسول، وينادي الناس: أنا سليمان، فلا يصدقه أحد، ثم وقع لأحدهم أن اصطاد سمكة، فتصدق بها على سليمان ليأكلها، فإذا بخاتمه فيها، فلبسه وعاد إلى ملكه. ومثال ثالث، من سورة الأنبياء، في قوله "وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَان إِذ يَحْكُمَان فِي الْحَرْث إِذ نَفَشَت فِيهِ غَنَم الْقَوْم وَكُنَّا لِحُكْمِهِم شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ" .. فلا يمكن أن نفهم الآية، دون الرجوع إلى تفاسير تخبرنا أن صاحب غنم، أفسدت غنمه زرعا مرت به، فاختصما إلى داود، فحكم لصاحب الزرع بالغنم، ثم إن الخصمين قابلا سليمان، وقصا عليه قصتهما، فسألهما عن حكم أبيه داود، فلما عرفه قال: ما هكذا يكون القضاء، وإنما أحكم بأن يأخذ صاحب الزرع الغنم، لينتفع بألبانها وأصوافها، حتى يصلح صاحبها زرع أخيه، ثم يأخذ غنمه. ومثال رابع، من سورة الجن، في قوله "وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شَدِيدا وَشُهُبا (8) وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع، فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا (9)".. فلا يمكن، ولا يتأتى لأحد أن يفهم من الآيتين -دون عودة إلى التفاسير-أن الجن كانت تتجسس على الملائكة، ثم تلقي بما سمعته من أنباء إلى بعض الكهان، فلما بعث النبي، وبدأ نزول القرآن، لم تستطع الجن أن تمارس ما اعتادته من تجسس على الملأ الأعلى، إذ أرسل الله الشهب تحرق كل شيطان يحاول أن يسترق السمع، حتى لا يتعرض المسلمون لمخاطر تسرب القرآن إلى الكهنة قبل نزوله على محمد. في الأمثلة السابقة، لا يعطي القرآن معناه بنفسه، ولا يمكن لمن بلغ الغاية في علوم العربية أن يعرف مراد الله من الآيات، ولابد له من عودة إلى وسيط، هو المفسر، الذي يحيلنا حتما إلى مرويات قد تكون واهية حتى بمقاييس علم الإسناد. إن طبيعة النص القرآني تحتم وجود طبقة وسطاء، لا يمكن فهم الكتاب إلا من خلالهم، فالنص لا يستقل بمعناه، ولا يعطي مراده من خلال كلماته فقط، لذا، فإن المسلمين عرفوا "المفسر" منذ عهد الصحابة، كما أن الغموض المحيط بالنص أعطى لهؤلاء المفسرين دورا كبيرا، تجاوز في كثير من الأحيان ما يمكن أن تتحمله الآيات من معان. والأمثلة المضروبة هنا ليست استثنائية، ولا منتقاة، هي فقط أكثر وضوحا في التدليل على وجود طبقة "الكهان" في الدين الإسلامي، فأي وساطة بين العبد وربه هي كهانة، وإذا كان النموذج المسيحي يتمثل في تدخل الكاهن في العلاقة الضمائرية بين الرب وبين شعب الكنيسة، فإن نموذج الكهانة الإسلامي لا يقل عنه ضراوة، حيث لا يمكن فهم مراد الله إلا من خلال وسيط يشرح المعاني من خلال مرويات لا يعرف أحد من أين أتت. تأمل معي حجم الاختلاف في تفسير فاتحة الكتاب، التي تبدو للوهلة الأولى واضحة المعاني، سهلة الألفاظ، فالمفسرون مختلفون في معاني جميع آياتها، ومختلفون في معاني كل ألفاظها، وستجد اختلافا كبيرا حول معنى "بسم الله الرحمن الرحيم" وما هو متعلق الجار والمجرور في "بسم"، وهل يوجد فرق بين "الرحمن" و"الرحيم" أم أن اللفظ الثاني مجرد توكيد للأول، بل إنهم مختلفون حول كون البسملة آية من الفاتحة أم لا، وستجد كثيرا من المفسرين والفقهاء وأئمة القراءات يعدون البسملة آية من الفاتحة، كما هي في رواية حفص عن عاصم، بينما ستجد آخرين يرونها آية مستقلة لافتتاح السور، دون أن تعد من الفاتحة كمثل المصاحف المكتوبة وفق رواية ورش عن نافع. ثم تختلف القراءات في لفظة "ملك" حيث يقرأها بالقصر ستة قراء، هم نافع وابن كثير وأبو عمر وابن عامر وحمزة وأبو جعفر، فيما يقرأها أربعة أئمة بالمد "مالك"، وهم عاصم والكسائي ويعقوب وخلف، ولكل لفظة منهما معناها. كما يختلف المفسرون في معنى الآية الأخيرة، فبينما يرى أكثرهم أن المنعم عليهم هم أتباع محمد، وأن المغضوب عليهم هم اليهود، وأن الضالين هم النصارى، يرى الإمام محمد عبده أن كل الأمم تعرف المنعم عليهم والمغضوب عليهم والضالين. ولا يفوتنا التذكير بأن العلماء مختلفون في عد الآية الأخيرة، فبينما يرى بعضهم أن "صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين" آية واحدة، يرى آخرون أنها آيتان، هما السادسة والسابعة من آيات الفاتحة، فالسادسة هي "صراط الذين أنعمت عليهم" والسابعة إلى آخر السورة. وفي كل هذا أنت بحاجة إلى المفسر، ليمارس دوره الذي فرضته طبيعة النص، وغموضه، وإن أردت معنى آية، فستغرق في صفحات المفسرين، تطالع ما قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي والحسن والضحاك وابن كثير والطبري والقرطبي والرازي والزمخشري والبيضاوي والبغوي وابن عطية والثعالبي والنسفي والنيسابوري وابن حيان والآلوسي.. وصولا إلى محمد عبده ورشيد رضا والمراغي وشلتوت وسيد قطب. بل إن محمد عبده، الذي أراد أن يحرر النص من سطوة المفسرين، وأسر المغالين، ونصح بأن نفسر القرآن بأنفسنا متى استكملنا الأداة اللازمة، وهي التمكن من العربية، وبالرغم من علو كعبه في علوم اللغة وآدابها، لم يستطع أن يسير بمنهجه هذا إلا معتمدا على تفسير تراثي، هو تفسير الجلالين، ولعله اختاره لعباراته القصيرة وخلوه من الحواشي، ولأنه ينتمي إلى التفسير بالرأي. لقد وضع المفسرون قواعد خاصة للتعامل مع النص القرآني، بما يكرس سطوتهم، ويرسخ قيودهم، فهذه آية عامة، وتلك آية خاصة، هذه ناسخة وهذه منسوخة، هذه محكمة وهذه متشابهة، هذه نسخت لفظا وبقيت حكما، وهذه بقيت لفظا ونسخت حكما، هذه تدخل تحت قاعدة "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، وهذه نبحث في أسباب نزولها وملابسات سياقها. ولا ريب أن هذه "العلوم" التي طوق بها المفسرون النص القرآني، قد عززت من سطوتهم، إذ لا يجدي مع فقدانها أي دراية باللغة والبيان العربي، لكن الحقيقة التي يصر كثيرون على تجاهلها تقرر أن طبيعة النص القرآني هي التي فرضت هذه القيود، فالغموض الشديد الذي يلف معظم آيات القرآن، واستحالة أن يقوم المعنى بذاته من النص مباشرة، أجبر المفسرين على وضع هذه القواعد، التي قد يبدو النص القرآني بدونها متضاربا، فالمفسر كثيرا ما يدفع التعارض بين آيتين بوصف إحداهما بالعموم والأخرى بالخصوص، أو بأن الثانية نسخت الأولى، أو بأن آية كذا من المتشابه الذي نؤمن به كما جاء ما لم يأتنا تأويله. ولا ريب أن تلك "القواعد" و"العلوم" التي وضعها المفسرون لفهم القرآن مثلت حواجز ضخمة بين الكتاب الكريم وبين المسلمين، مضافا إليها حاجز النبوغ اللغوي الذي رأه محمد عبده الشرط الأهم والأوحد لطلب معاني القرآن بعيدا عن المفسرين، ومنذ عهد الصحابة، لم يعد بمقدور أي مسلم أي يفهم القرآن إلا عبر "الوسيط المتأهل". وستبقى تلاوة المسلمين للقرآن تلاوة تكرار بلا فهم، وتعبد بالحروف والألفاظ لا بالمعاني والمقاصد، وسيبقى السبيل الوحيد لفهم آية هو اللجوء إلى المفسر، لتعرف مراد الله من خلاله، مع اختلاف هائل بين أئمة التفسير، ومع الانتباه إلى أننا حين نطلب معنى الآية من مفسر فإننا نكون قد عرفنا مراد المفسر لا مراد الله، ومن سيطلب تفسير سورة من ابن كثير مثلا، فهو متعبد في محراب ابن كثير، ومن طلب تفسيرها من القرطبي فهو دائر في فلك القرطبي.. وتبقى الكهانة، ما بقيت سحائب الغموض تلف النص بضبابها.