يعتبر الفن من أظهر صور المقاومة وأكثرها تأثيرا بفعل الانتشار والاستمرار الزمني , فالمعارك الحربية والأعمال القتالية تنتهي بانتهاء فعلها وأثرها أما الأعمال الفنية فتظل مخلدة وشاهدة عن المرحلة وما فيها ، وتأتي الأغنية في المرتبة الأولى في هذا المضمار وذلك لسهولة وسرعة انتشارها وتداولها وترديدها. وللأغنية دور كبير في المقاومة والنضال الوطني وذلك لدورها في الشحن المعنوي للجماهير ضد المستعمر / المستغل, وضد المعتدي حتى ولو كان من أبناء جلدة الوطن, كما أنها أداة لبث الإحباط في العدو والسخرية منه, وكسر صورته والحط من شأنه, وهي سجل لتاريخ الأمة وبطولاتها, وتأكيد روح الصمود للمقاومين والرافضين. وقد سجلت الأغنية الساخرة المقاومة والنكتة المصرية الكثير من صور الظلم التي كان يمارسها الحكام على الشعب، بل إن التاريخ المصري في رأي بعض المؤرخين ما هو إلا سلسلة طويلة من المظالم التي امتدت إلى آلاف السنين، ولم يتيسر للمصريين مواجهتها إلا بانتفاضات هامشية قصيرة الأجل, لا تزيد عن دور الفواصل والنقط بين الجُمل، أما أسلوب الرد الذي كانوا يجيدونه فهو الدفاع بالكلمة اللماحة وبالسخرية والتشنيع بواسطة الأغنية والنكتة. فإذا تعامل الحاكم مع الشعب على أنه مغفل ومتخلف, تأتي النكتة كي ترد السهم إلى صدر الحاكم في شكل نكتة ترضي الذات وتجلد الحاكم، وتعيد جزءا من الكرامة المسلوبة، وتعري الحاكم وتكشف غفلته وسوء تقديره للشعب ووعيه. وبرع المصريون منذ القدم في نسج أغاني المقاومة, والسخرية من عدوهم, فيحفظ لنا التاريخ المصري القديم, وبعض المصادر التاريخية أن الرومان حرَّموا على المصريين القيام بأعمال المحاماة أمام محاكم الإسكندرية, لأنهم كانوا يغضون من هيبة القضاء الروماني بالمزاح والسخرية بالأغنية الساخرة والنكتة أثناء مرافعاتهم القانونية وشرح القضايا. واستمر هذا الملمح في الشعب المصري حتى أن شاعرا كبيرا كابن سودون لم يتبق لنا منه سوى أشعاره وأغانيه المقاومة للحكام بالسخرية منهم, وهي سجل منضبط للحياة المصرية وقتها, راصدا لنا انقلاب الأحوال في عصر من عصور الانحطاط التي كثيرا ما مرت بها مصر. وتمر السنوات، ونجد ذات الروح الساخرة المقاومة, فنجد بيرم التونسي ساخرا من الملك فؤاد اللاهث وراء إرضاء الإنجليز, الحالم بخلافة له ولابن من بعده, وهاجم بيرم فؤاد مرة أخرى في ابنته "فوقية", وهاجم كذلك "نازلي" التي وضعت فاروق بعد سبعة أشهر من الزواج, مما جعل الجميع يستريبون، ولا يكتفي بيرم بهذا بل يصيغ أغاني مسرحية (شهوزاد) والتي عرضت عام 1921 معرضا بالملك فؤاد وبسلوك ابنته وزوجته. ثم تأتي تجربة نجم / إمام، والتي شغلت حيزا كبيرا زمنيا ووجدانيا, حتى أن أغاني ميدان التحرير في 2011 كانت أغلبها لهذا الثنائي, ومن روحهما. وتأتي أغاني المقاومة في منطقة القناة ذات طبيعة خاصة, فلها تاريخها وانتشارها, ونجد احتفالية (الألنبي) كما يسمونها, سياق لأغانِ ذات طابع مقاوم ضد كل الشخصيات التي تمثل لهم صورا من الظلم, تأخذ شكل "الجُرسة", إذ يقوم الناس قبل الاحتفال بفترة طويلة بإعداد المواد اللازمة لصنع الدمية, ويطلقون عليها اسم أكثر شخصية أصابتهم بالإحباط خلال عامهم المنصرم, سواء كانت الشخصية سياسية أو رياضية أو فنية أو حتى شخصيات من مجتمعهم المحلي, ويقومون بعمل زفة لهذه الدمية المحمولة على الأكتاف أو عربات "الكارو" ليلة شم النسيم بداية من آذان العصر حتى غروب الشمس, مرددين مقاطعا من أغانٍ تسخر من اللنبي مثل: يا اللنبي يا بن حلمبوحة و مراتك عِره وشرشوحة يا اللنبي يا وش النملة مين قالك تعمل دي العَمْلَة يا اللنبي يا بن الخوجاية مين قالك تعملها حكاية إلى آخر المقطوعات الغنائية التي لا تتورع عن استخدام فاحش القول في إطار احتفالي مهين للشخصية المقصودة. ولمدن القناة تاريخ كبير في أغاني المقاومة مسجلة لهم بطولاتهم ووقوفهم ضد المعتدي, ونلحظ هذا منذ تريدهم لأغاني حفر القناة حيث فقد المصريون 120 ألف شهيدطوال فترة الحفر التى استمرت عشر سنوات, فيسجل لنا الوجدان الشعبي هذه الأغنية: على الكنال جالس تحكم وبتوالس دمك خفيفخالص وروح يا الغريب تانى معايا تانى شيل العلمتانى فوق الصارى تانى وقول معاي تاني روح ياالغريب وبعد أن أصبح الاحتلال الإنجليزي جاثما على قلب الوطن تغنى الناس على أوتار السمسيمة قائلين: ساكن بلادى بالقوة عدوي وعدوالدين أنا مصرى ودمى مانيش بايعه ولا بالملايين ونيجى نفاتحه فىحقوقنا يعمل مسكين وبيده حش بيت الكلوة بأحمىالسكاكين وقد واكب المغني الشعبي ما حدث في الحرب العالمية الثانية وتمنىأن يكون طيارا ليكشف أسرار الحرب فيقول: يا ريتني أكونطيار في الجو ليل ونهار وأنط م البرشوت ما يهمنيشالموت يا ريتني أكون طيار لا أودعالعربية وأركب الطيارة دا الجو فيه حرية لا فيهزقاق ولا حارة ولما انتهت الحرب العالمية , وتبلورت روح الاستقلال والبحث عن الحرية, فارتفعت الروح الوطنية راح المغني الشعبي يعبر عنتحدي مصر كلها لهذا الاحتلال الغاشم، وقدم فنانوالسمسمية أغانى وطنية تحيى تأميم قناة السويس، وصمود المصريين وتغنى لبطولاتالمقاومة الشعبية. وظهرت في هذا الوقت العديد من الأدوار الوطنية المقاومة, مثل: "مورهاوس" ، "في بورسعيد الوطنية"، "بلدي يا بلد الفدائيين"، "بورسعيد شباب ورجال" ، "مبروك يا ولاد بلدنا" ، "ما تقولليش وما تعيدليش" ، "بحريا وابور"، "بحروف من نور" ، "ده كنالنا وبحرنا". ونجد الكابتن غزالي (أشهر من ألف ولحن أغانٍ للمقاومة في منطقة القناة) في النصف الثاني من القرن العشرين, يقول أثناء حرب الاستنزاف: ملعون أىصوت يعلى على صوت المعركة ملعونة المداين ملعونةالجناين لو سبت أى خاين يرعش يوم النضال ويهتفأيضا بالأمل قائلا: فات الكتير يا بلدنا ما بقاش إلاالقليل بينا يا للا بينا نحرر أراضينا واستمرت الأغنية متسمة بروح المقاومة والرفض, وطلب الحرية والاستقلال, ومنع الاستغلال، مستمدة من التراث المصري القدرة على السخرية والمواجهة, وبث الأمل في نفوس المقاومين.