نعيش مشهدا عبثيا مثيرا للتهكم والسخرية والضحك استدعته الحوارات والمبارزات والجدل المجاني الذي يثير الغثيان ويؤكد أننا بحاجة لاستعادة قراءة جزء من ماضينا / حاضرنا التي استدعته حوارات الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعي ومبارزات وتلاسنات الساسة والإعلاميين الذين صدرتهم لنا الأقدار، يستدعي المشهد تأمل فكر العروسة وما تطرحه من منظومة ثقافية، وما تقدمه من مخايلات فنية، فقد كانت العرائس والدمي تقوم بأدوار نفعجمالية ، حيث كانت تمثيلا لقوي الشر التي يمكن الانتقام منها عندما تشعر الأمهات بطاقة الحسد آتية من إحدي جاراتها فتقوم بصناعة العروس الورقية التي تمارس عليها شرا مضادا بقراءة التعاويذ درأ للحسد واتقاء للشر فتقوم بتخريمها بالإبرة بدأ من العين، تلك العين الشريرة وتمارس الانتقام منها حتي تصل لحرقها ومنها إلي الدمي التي كانت تعلق علي واجهات البيوت خاصة المصنوعة من أعواد القمح ومنها إلي الدمي التي لعبت دورا اجتماعيا وسياسيا كما نري حتي الآن في ظاهرة اللنبي كظاهرة مهمة في قلب الدراما الاجتماعية بامتياز حيث يواصل الشعب المصري ممثلا في جماعته الشعبية في مدن القناة مع التركيز علي محافظة بورسعيد بصناعة الدمي والتمثيل بها في ظاهرة فريدة تعري المسكوت عنه في مجتمعنا المصري فمن تجريس اللنبي الذي كان لوردا انجليزيا قاسيا وتجبرا إلي فضح وتجريس كل النماذج الإنسانية السيئة التي أساءت للشعب المصري أو حطت من قدره أو استهانت به ، ومن اللنبي وما يتم فيه من مظاهر السخرية والكاريكاتيرية التي تتجلي في بناء العروسة وشكلها حتي حرقها وإلقائه في البحر، من هذا التمظهر السيسيو ثقافي والفني إلي تجليات العروسة دراميا حين نلمحها في فنون العرائس خاصة العرائس القفازية التي تتجلي في ظاهرة الأراجوز بوصفه ممثلا لرحلة فنثقافية تمارس اللعب بالرمز مرة بالحكي المكثف الذي لا يخلو من "قفشات" السخرية التي تتسلح بالتقفية ، أو فن القافية وهذه السخرية تتم من شخوص ونصوص وعادات وتقاليد ونماذج إنسانية سيئة طفت علي سطح المصرية وها هي قد صارت النماذج الأكثر حضورا في المشهد المصري الذي يعج بالفوضي ، ويقوم الأراجوز/ العروسة بتجسيد هذه الشخصيات عبر لعبة المخايلة التي تترك مجالا خصبا للمشاهد ليملأ الفضاء المسرحي الذي يبدو صغيرا من حيث حيزه المكاني وعدد أفراده وأدواته ، لكنه بلا شك ذلك الفضاء المتسع بتعدد شخوصه ونماذجه الإنسانية وطروحاته التي تمثل العبقرية المصرية وقدرتها التهكمية رفيعة المستوي وهو ما يتحقق في شكل العروسة وطريقة آدائها الاستعارية وحكاياتها وأمثولاتها ولا يقتصر الأمر عند حد العروسة القفازية التي يصنعها اللاعب بنفسه ويهيئ لها من الزي ما يناسب وجودها الاجتماعي والثقافي وما تعكسه من مظاهر كاريكاتيرية ساخرة تثير الضحك قبل البدء في أية حوارات أو حركات ، وكذا ما تستخدمه من أدوات وإكسسوارات تساعد في رسم الصورة الكلية للمشهد الدرامي الحي الذي يشارك الجمهور في صنعه وهو ما يجعل للفن العرائسي قدرة أعلي في الوصول لهدفه عبر التقريظ والسخرية التي تتم عبر التقليد والمحاكاة الساخرة من طريقة الأداء أو استخدام الصوت أو الإشارات ... إلخ . الأرجوزاتي صانع الكلام إن إطلالة تاريخية علي خيال الظل وباباته تحتاج بابات ابن دنيال ومسرحه الظلي لدراسات متجددة ظلت عند حد المخايلة بالظل والضوء دون أن تتحول لمسرح بشري، لكن الأراجوز قد عضد هذا النوع من الدراما الشعبية folk drama التي كان أهم أهدافها وتوجهاتها السخرية والتهكم ، وإذا كانت البابات قد عايناها مكتوبة إلا أن الأراجوز كان حرا من كل كتابة يترك نصوصه لمقتضي الحال يطورها ويجعلها الأرجوزاتي / محرك العروسة والمتحدث باسم الجماعة التي ينوب عنها في السخرية من كل قبيح وسخيف ومتسلط ليواجه قواهر المصريين عبر لغته وصوته المتميز الذي لاتخطئه أذن ، فالأراجوز عكس المتواتر من آراء مصري النشأة والجذور فمعناه في القبطية التي نظنها قد جاءت من المصرية القديمة اروجوس وهي مفردة من مقطعين صوتيين ومعناها صانع الكلام ، ويرجعها البعض إلي المفردة التركية "قره قوز" التي تعني العين أو النظرة السوداء ، أي النظر إلي مواطن السوء ومواجهتها بالكلام المنغم الذي يبنيه دراميا محرك الدمية ومعه شخصية تسمي "الملاغي" أو البردجي الذي يقوم بوظيفة مساعدة وإذا كان الأراجوز هو أشهر الشخصيات العرائسية بحيث صار علامة علي فن بأكمله إلا أن فرجة الأراجوز كانت تضم عددا كبيرا من الشخوص أهملها تاريخ الفن ونساها الناس نذكر منها : البربري ذ الفلاح ذ الصعيدي ذ بنت البلد ذ الغنام ذ الأفندي ذ الزوجة ذ الابن ، ويشارك الأراجوز بعض هذه الشخصيات في "نمر" فكل مشهد متصل يحكي حكاية يسمي "نمرة" ولا تخلو نمر الأراجوز ومشاهده من السخرية والتقريظ والتهكم ، كما يقتحم مشاكل سياسية واجتماعية مسكوت عنها ، وقد يخيل لبعض النظارة أن الأراجوز مجرد فرجة للإضحاك فحسب لكنه صاحب رسالة اجتماعية وسيلته فيها فن الدراما الشعبية ، تقول الباحثة أماني الجندي في كتابها "فنون الفرجة الشعبية وثقافة الطفل" إن الفرنسيين قد استخدموا الأراجوز للسخرية من المماليك عبر تقديم فقرات تصور عذابات المصريين بسبب ظلم المماليك لهم ، وتؤكد أن عرض الأراجوز يبدأ بالغناء لجذب الجمهور يليه حوار فكاهي بين الأراجوز والملاغي وباقي شخوص العرض التي تضم غالبا بعض الشخصيات المراد