عندما تطأ قدمك مستشفى حلوان "القديمة"، ستشعر حتما أنك فى إحدى روايات الرعب، لاسيما وأن المكان بالفعل تم تصوير أحد أفلام الرعب فيه، هو فيلم «الكامب» عام 2008. لن تتصور وأنت تتجول في المكان أن هذا الخراب المثير للرعب برمته، كان ذات يوم تحفة معمارية شاهدة على فخامة العصور الملكية، إنه فندق «الحياة»، الذي يتكون من أربعة أدوار تحتوى على 365 غرفة نوم، لاستيعاب السائحين القادمين للاستمتاع بشتاء مصر، أو الباحثين عن العلاج بعين حلوان، حتى تحول إلى مستشفى للأمراض المستعصية. الغريب أن يتحول هذا المكان مع مرور الأيام والسنوات، من مستشفى للأمراض المستعصية، إلى مرض مزمن استعصى على العلاج، رغم أن الكثير من رجال الدولة المفترض فيهم العمل على علاج كل مشكلاتها بشرا وأرضا ومرافق وغيره، تناوبوا عليه وفشلوا جميعا في علاجه، حتى بات مهجورا، لا يدخله إلا المجرمون والخارجون عن القانون ليتخذوا منه مأوى ووكرا لتجارة المخدرات وممارسة الرذيلة. «البديل» حاولت أن تتجول في المساحة الزمنية الفاصلة بين إنشاء التحفة المعمارية السياحية التي أنشأها الخديوي عباس حلمي الثاني في أواخر القرن التاسع عشر، ووكر المخدرات والمجرمين الذي استحدثه المصريون في القرن الحادي والعشرين على أنقاض هذا التراث. تحفة مصر الأوروبية تتحول إلى وكر للبلطجية وممارسي الفاحشة قالت سالى سليمان – المرشدة السياحة وصاحبة مدونة «البصارة» الخاصة بالتوثيق الأثرى والتراثى التاريخي، إن الخديوي عباس حلمى الثانى، الذى أنشأ الفندق بجوار استراحته بحلوان عام 1897، لم يتوقع أن تتحول تحفته التي سعى من خلالها إلى إحداث نهضة سياحية عالمية بالمنطقة، إلى وكر للمخدرات ومأوى للمجرمين. وأوضحت أنه حين قرر الخديوي عباس حلمى الثانى إنشاء استراحة له فى المنطقة، أقامها على طراز المبانى الأوروبية الكلاسية مثل مبانى روما القديمة، وصمم على إنشاء فندق يحيط بالاستراحة من جهات ثلاث، وصمم الفندق على شكل بلوكات بارزة وغائرة، حوائطه مزينة بزخارف مثل الأزهار والفيونكات ومفتاح الحياة الفرعونى، واستمر استقبال الفندق لنزلائه حتى تولي الملك فؤاد حكم البلاد. وأضافت «سليمان» أن الملك فؤاد حول الفندق عام 1930 إلى مستشفى لمرضي سل العظام، واستخدمت استراحة الخديوي عباس حلمي الثاني كمقر إدارى للمستشفى، ولكن بعد زلزال 1992، اضطرت وزارة الصحة إلى إخلاء المبنى بعد أن أصيب بعدة تشققات وشروخ، وقامت ببناء مستشفى جديد فى حديقة الفندق أو "المستشفي القديم"، وهي مستشفى حلوان العام. وقال حسن فرج – 40 عاما، موظف من أهالى المنطقة، إن المستشفى به بلطجية يعيشون على السرقة والنهب، قاموا بتفكيك الشبابيك والأبواب، بل إنهم أيضا قاموا بتكسير حوائط كاملة، وأسقف لسرقة الحديد والأخشاب منها، بالإضافة إلى تعاطيهم المخدرات واصطحاب النساء المشبوهات لممارسة أفعال محرمة، مؤكدا أن المنطقة يختفى معها الأمان بحلول الظلام. «الغول» المصري حذرنا الأهالي في إصرار من محاولة دخول المبنى، فداخله يمكن أن نصطدم بالمجرمين والبلطجية، فمنهم من يقيم بالمكان إقامة شبه دائمة، لكننا صممنا على الدخول لاستكشاف المأساة على الطبيعة. كانت رغبتنا في كشف الحقيقة أكبر من أي خوف حاول الأهالي تصديره لنا، كانوا يتحدثون عن قاطني المبنى من عتاة الإجرام كمن يتحدث عن «الغول»، لكننا أردنا أن نكشف «الغول» المصري الأكبر، وهو إهمال المسئولين وفسادهم الذي يدمر مصر يوما بعد يوم دونما حساب أو مساءلة. فى البداية وجدنا بقايا بناية أثرية، حوائط مهدمة وأسقف متساقطة، التماثيل الأثرية الأربعة المرصعة بأعلى حوائط الساحة الوسطي للفندق، لم نجد منها سوى اثنين، كما لاحظنا وجود سرنجات وحقن ملقاة على الأرض. على الحوائط، لاحظنا انتشار اسم «أحمد سيبه» حيث كتب على جدران كل الغرف بوضوح، بألوان مختلفة ولامعة، مما يدل على أنها كتابات جديدة ،ويؤكد تواجد مجرمين بالفعل، وعندما وصلنا إلى الدور الرابع والأخير فى نهاية جولتنا، وجدنا اثنين من المجرمين، ممددين فى سبات عميق داخل الغرفة الأولى المطلة على شارع المستشفى، وبجوارهما بعض متعلقاتهم التى تتمثل فى الحقن والبرشام، فخرجنا مسرعين خشية الصدام معهما. خرجنا وقد ترسخ لدينا أكثر أن «الغول» المصري بالفعل أشد توحشا وشراسة من أية مخلوقات أسطورية مخيفة، فهو يتفوق عليها جميعا في أنه كائن حقيقي له وجود فعلي داخل كل المسئولين المصريين الذين يدمرون تاريخ هذه الأمة، ويجرونها يوما بعد يوم من عنق التاريخ والحضارة إلى هوة التخلف والدمار، ببلادة وتبجح يتعاظمان كلما شعر المسئول أنه بمنأى عن الحساب والمساءلة على جرمه في حق هذه الأمة. «كذب المسئولون ولو وعدوا» عندما طالعنا «غول» الإهمال الذي صار وحشا مصريا «مألوفا» داخل جدران المبنى، لم نستبق الأحداث، وجاهدنا ألا نسارع بإلقاء الاتهام صوب هذا المسئول بعينه أو ذاك، وآثرنا أن نبحث عن المسئول الحقيقي لدى رئيس حي حلوان، اللواء عمرو أحمد حسين، اتصلنا به، فحدد لنا موعدا – وفق اختياره – زعم أنه سيحضره مسئولو الإسكان ومسئولو التراث بالحي، حتى يعرض أمامنا الحقائق كلها. فى الموعد المحدد، توجهنا إلى اللواء "عمرو"، تسبقنا لهفة البحث عن متهم نؤمن أنه يجسد صورة كل متهم بتدمير جزء من تراث وحضارة وتاريخ هذا البلد، متهم نتوق إلى تقديمه إلى عدالة القضاء والتاريخ والإنسانية، فإن كان في عرف القضاء يستحق أن يلقى به خلف جدران السجون، فإنه أمام التاريخ يستحق أن يموت ويمحى اسمه كما يسعى في محو اسم هذا البلد وحضارته.. ورغم كل هذا، فوجئنا بأن اللواء عمرو أحمد حسين – رئيس حي حلوان، يتهرب من اللقاء الذي حدده واختار بنفسه ساعته، دون إبداء أسباب. «مالناش دعوة بيه» ولأن «الأنامالية» المصرية الشهيرة متعددة الأوجه، ومنها بلا شك «ماليش دعوة» أو «مالناش دعوة» وغيرها من الوجوه المتعددة المتحولة المتحورة، فلم يكن من قبيل الجديد أيضا أن نصطدم بهذا الوجه.. فالمبنى الذي كان ذات يوم تحفة معمارية، ثم استحال مستشفى للعظام على مدار 62 عاما، ولأن القاعدة في الدول المتقدمة أن المستشفيات في أية دولة بها وزارة للصحة تكون تابعة لتلك الوزارة، فقد كان من الموافق لمنطق الأمور أن يتبع هذا المستشفى وزارة الصحة المصرية، ولكن!! جاءت كلمات الدكتور أحمد السعدني – مدير عام مستشفى حلوان العام، الأولى صادمة، حيث قال: «المبنى تابع للآثار ولا علاقة لنا به»، وترجمة هذه العبارة المقتضبة بالعامية المصرية المعروفة: «مالناش دعوة بيه» أو «احنا مالنا.. اسأل الآثار». ثم استدرك الدكتور «السعدني» قائلا إنه ليس على يقين إن كان المبنى يتبع وزارة الآثار أو محافظة القاهرة!! وأضاف أن المبنى ومن يقيمون داخله لا يسببون أي ضرر على المستشفى أو المرضى، وأنه توجد قوة تأمين تحت رئاسة أحد الضباط يتواجدون باستمرار لحماية الأطباء والمستشفى، لافتا إلى أن الوزراة تنفذ حاليا مشروعين لتطوير مستشفى حلوان العام يتضمن أحدهما بناء سور خارجي يحيط المستشفى بالكامل. فن الهروب من الجريمة داخل «متاهة التعريفات» حين استهل مدير مستشفى حلوان العام حديثه بتحديد الجهة التي يتبعها المبنى إما وزارة الآثار، أو محافظة القاهرة، أحسسنا باقتراب وصولنا إلى حقيقة محددة جلية، إلا أن هذا الظن لم يكن سوى أوهام في ظل متاهات ودوامات المسئولين المصريين. توجهنا إلى الدكتور محمود عباس – مدير عام آثار العصر الحديث، ففتح باب المتاهة قائلا إن المبنى مسجل «تراث حضاري» وليس «أثرا»، مثله مثل باقى قصور حلوان. ورغم مرور أكثر من 100 عام على إنشاء المبنى، الأمر الذي يحيله إلى أثر، وفقا للبند الأول من القانون المصرى رقم 117 لسنة 1983، لتسجيل المبانى كآثار، إلا أن «عباس» قال إن وزراة الآثار لا تسجل المبانى المنهارة، وتسجل فقط المبانى الجيدة والتى تحتوى على رسوم وزخارف، والتي شهدت أحداثا تاريخية، مشيرا إلى وجود العديد من المبانى التاريخية التى مر عليها أكثر من 200 عام وغير مسجلة كآثار؛ لأنها لا تحتوى على نقوش أثرية ولا زخارف ولم تشهد أية أحداث تاريخية، وسوء حالتها الإنشائية. وقائمة التراث الخاصة بالجهاز القومى للتنسيق الحضارى، أشارت إلى أن المبنى مسجل كتراث تحت قائمة «حقبة تاريخية وقيمة معمارية» برقم 4260000175، إلا أن هذا لم يحفز المسؤلين لاتخاذ خطوة من شأنها حماية المبنى من السرقات أو ترميمه أو إعادة توظيفه بدلا من تركه وكرا للمجرمين والبلطجية ومدمني المخدرات. من جانبها، أشارت سهير حواس – نائب رئيس الجهاز القومي للتنسيق الحضارى، إلى معاقبة القانون كل من يهدم المباني المسجلة كتراث حضارى بقائمة الجهاز، وتترك كما هى لحين توافر دعم مالى يسمح بترميمها وإعادة تأهيليها. وأضافت أن ترك الفندق وكرا للمجرمين يرجع للانفلات الأمنى الذى حدث خلال فترة ما بعد ثورة 25 يناير، أما عن الإهمال والسرقات فترجع المسئولية فيها إلى المسؤلين داخل محافظة القاهرة ورئاسة حى حلوان، متساءلة هل لهم مصلحه لترك مثل هذه الكنوز للسرقه والإهمال؟ ويرى بعض المعماريين أنه يمكن إعادة ترميم المبنى واستخدامه كمستشفى كما كان أيام الملك فؤاد وحتى منتصف السبعينيات. يقول كريم محمد السيد – أخصائى الترميم الأثري، إن المبنى يمكن أن يتم ترميمه وإعادة تأهيله بطراز حديث مع المحافظة على ما تبقى من القديم، لكن سوء الحالة الإنشائية للمبنى تحتاج جهدا كبيرا وتمويلا ضخما، ربما يصل إلى 300 مليون جنيه، مما يصعب تنفيذه فى ظل عدم توافر المبلغ بخزانة جهاز التنسيق الحضارى أو وزارة الآثار.